... في زمن يعزّ فيه الكتاب، ويندر فيه الكُتّاب، ويغلب التقدير على التدبير والتفكير، ويقلّ التحقيق والمحقّقون، تتشرَّف أسرة مجلّة "شعائر" أن تسلِّط الضوء على إنتاج فكري - تاريخي - تحقيقي رائد، حصل على جوائز وتكريمات عالميّة، إنّه كتاب "الصحيح في سيرة النبيّ الأعظم(ص)" للمحقِّق العلّامة السيّد جعفر مرتضى العاملي، الذي أجاب عن أسئلة المجلّة حول الكتاب.
*سماحة السيّد، ما هو برأيكم الفارق النوعي بين ما ورد في كتابكم "الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله" وبين كُتب السيرة المتعارفة؟
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمد صلّى الله عليه وآله، وآله الطيّبين الطاهرين، واللّعنة على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخرين، إلى قيام يوم الدّين.
إذا كان المقصود بالسيرة هو سرد الأحداث التي ترتبط بحركة شخص، أو أشخاص في مجالات مختلفة من حياته وحياتهم، فإنّ كتاب "الصحيح" لم يعتمد هذا النهج، بل هو لم يُكتب من الأساس لأجل هدف كهذا، ولو جزئيّاً.
وإنّما أُلِّف هذا الكتاب بداعي معالجة ما يمكن معالجته، أو ما تسنح الفرصة لمعالجته من نصوص تدَّعي أنّها تحكي أحداثاً في حياة رسول الله ؟ص؟، ولها نوعُ ارتباطٍ به، أو انتسابٍ إليه، أو يمكن أن يكون له(ص) تأثير فيها بنحو، أو بآخر.
وهذه المعالجة كانت على أنحاء، وفي أكثر من اتّجاه:
فهي تارة تهتّم بنقد النص لمعرفة صحيحه من سقيمه، وغثِّه من سمينه، وسليمه من محرّفه، وحقيقيِّه من مزيّفه.
وأخرى تحاول معالجة مضمون النص بإلقاء الأضواء على طبيعة مضمونه، وتحديد قيمته، ومدى انسجامه مع الثوابت والمنطلقات العقائديّة والإيمانيّة الصحيحة، وموافقته لأحكام الشريعة، والقِيم والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة، الرفيعة والنبيلة.
والهدف من ذلك: هو تصنيف النص ووضعه في دائرة الحقّ، أو اعتباره من الباطل الذي لا بدّ من تحاشيه، والابتعاد عنه، وإدانة مَن صنعه، أو التزم به، أو مال إليه، وروّج له، واعتمد عليه.
وهناك مستوى آخر استأثر بقسط من اهتمامنا في معالجاتنا لتلك النصوص، وهو محاولة استنباط اللّطائف والظرائف منها، وكشف حقائقها، والوقوف على ما أمكن الوقوف عليه من دقائقها، واستنطاق عباراتها، واستلهام إشاراتها في حدود ما يتيسّر لنا من وقت، وما يتسنّى لنا بذله من جهد.
ولو أردنا أن ندّعي أنّ كتاب "الصحيح" هو كتاب سيرة سرديّة وحسب، فلا بدَّ أن نعتبر أن التّعرّض لهذه المجالات -باستثناء الجانب السردي للسيرة- خروجٌ عمّا هو مرسوم، ونقضٌ للغرض، إن لم نقل إنّه خبط وخلط، وتسمية للأمور بغير أسمائها.
* ما هي المصادر الأساسية التي تمّ الإعتماد عليها في كتابكم؟
إنّ ما نبحثه في هذا الكتاب هو نصوص سجّلت حركة نبيٍّ معصومٍ ومسدّدٍ من الله تعالى في كلّ شيء، وفي مختلف المجالات.
وحركة النبي هي: مواقفه، وتوجيهاته، وأجوبته وبياناته، وسكوته، وكلّ ما يصدر عنه من فعل وقول هو أسوة وقدوة فيه. وهو مدرسة فيها مختلف العلوم والمعارف، وفيها أحكام وسياسات، وتربية، وقِيم، وأخلاق، واعتقادات وسلوك، وخطط حربيّة، وفيها إعلام وطب، وفقه وأصول فقه، وتاريخ، ومناهج، وكلّ ما يحتاجه الإنسان، وما يحتمل أن يمرّ عليه، ويتعامل معه.
وقد نجد بعض ما يعرّفنا بذلك كلّه في القرآن الكريم، وفي أقوال الذين عاشوا مع النبي(ص) وأقوال الأئمّة(ع) ، الحاكية لأقوال وأفعال، وسياسات، وكلّ حركة وسكون، وكل ما جرى له، واتّصل به، وما إلى ذلك.
وبالرغم من السياسة التي اعتُمدت بعد استشهاد الرسول(ص) مباشرة، والقاضية بالمنع من رواية وتدوين أقواله وأفعاله وسياساته وكثيرٍ ممّا يرتبط به(ص)، فقد هيّأ الله تعالى سُبُلاً كثيرة استطاعت أن تكسر كلّ هذه الحواجز، وتتجاوز جميع العوائق التي اعترضت سبيل وصول كثير من الأمور إلينا.
ولكن ما وصل إلينا كان كثيراً أيضاً، وإن كان قد اختلط غثُّه بسمينه، وصحيحُه بسقيمه.
وقد كان كلّ فريقٍ من الناس، وكلّ ذي اختصاص يحاول أن يأخذ من النصوص القرآنية، ويختار من الروايات في السيرة والسنَّة النبويّة ما يناسبه، فيدوّنه بحسب ما يراه مناسباً. وربما سجّل ملاحظات توضيحيّة، أو تصحيحيّة على بعض ما سجّله، وربّما أهمل ذلك ليكون الذين يأتون بعده هم الذين يتولّون ذلك.
فانتشرت السُّنّة والسيرة على مساحة الإختصاصات والإهتمامات، والسلائق، التي دوّنت التراث الإسلامي.
فاحتوت جميع المؤلَّفات في التراث وفي العلوم التي نشأت بعد الإسلام، وفي العلوم التي تأسَّست قبله أيضاً، ودُوِّنت أو أُعيد تدوينها بعد ظهور الإسلام -احتوت- الكثير الكثير من السنّة والسيرة كأدلّة تارة، وكشواهد ومؤيِّدات أخرى. فأيّ كتاب تفتحه وتنظر فيه، فإنّك تجد فيه الشيء الكثير من ذلك.
من أجل ذلك نقول: إنَّ المصادر التي اعتمدنا عليها في كتاب "الصحيح من سيرة النبي الأعظم ؟ص؟" هي -بالإضافة إلى كتاب الله سبحانه- كلّ ما استطعنا أن نطّلع عليه من المؤلّفات التي كتبها أهل الإسلام، مثل كُتب: الأنساب، واللّغة، والعقائد، والتاريخ، والتفسير، والحديث، والطب، والأدب، والجغرافيا، والبلدان، والرجال، والفقه، والأصول، حتّى كُتُب الفلسفة، والحساب، وما إلى ذلك، إلخ.
* هل استطاع الكتاب أن يعالج إشكاليّات في السيرة النبويّة كانت مقاربتها في الغالب شكليّة، أو أنَّ الباحثين كانوا يتجاوزونها مخافة الوقوع فيما يخدش مقام النبي ؟ص؟، من قبيل "عدم فضح المنافقين" أو "قضيّة بعض زوجاته"؟
لا توجد إشكاليّات في السيرة تحتاج إلى معالجة، بل الذي يحتاج إلى المعالجة هو الفكر الإنساني حين يصبح أسير الأهواء، ويتّخذ طُرقاً ملتوية، ويتبنَّى معايير مجحفة، وغير واقعيّة، ويعتمد أدوات زائفة، فيوقع نفسه وغيره في الشدّة، وفي متاهاتٍ من الجهل.
والذي أَلجأَ هؤلاء الناس إلى ذلك: أهواء وعصبيّات، نهاهم الله عن متابعتها، وعن الإنسياق معها، وحظرت عليهم الحكمة الإقتراب منها، يرفدها ويغذّيها ويحميها استكبارٌ عن الحقّ أن يُقال لهم، وعن الصِّدق والواقع أن يُعرَض عليهم، وأن يعترفوا به، فضلاً عن أن ينقادوا له.
من أجل ذلك جاءت مقارباتهم للأمور عرجاء وعوجاء، وغير ذات أثر سوى تعميق الجرح، وزيادة الطين بلّة، والخرق اتّساعاً، وعن الحقّ والحقيقة ابتعاداً، وعلى الباطل إصراراً وعناداً. وإنّما على نفسها جنت براقش. ﴿.. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 118).
أمّا أولئك الذين تركوا عصبيّاتهم جانباً، واستسلموا للحقّ وأنِسوا به، وأحبّوه، ولم يستكبروا عنه أن يقال لهم، وأن ينقادوا له، وأن يعملوا به، ويدافعوا عنه، ويفدوا أرواحهم في سبيله، فقد خضعوا لمعايير سليمة، وضوابط قويمة، والتزموا بها. ولئن وقعوا أحياناً في خطأ جزئي هنا وهناك في بعض التفاصيل، بحكم كونهم بشراً لا يدّعون العصمة المطلقة لأنفسهم، فإنَّ ذلك لا يُخلّ بمسارهم العام، ولا يُفقدهم حالة التوازن، بل تبقى الضوابط والمعايير هي الحاكمة والمهيمنة على مسارهم العام، وعلى فكرهم، وهما المرجعيّة المطلقة له.
وما أسهل تراجعهم عن الخطأ حين ينكشف لهم، لأنّ القيمة عندهم للدليل والبرهان، وهو الذي يسوقهم هواهم إليه، ولا يتعصّبون إلّا له، ولا يعتمدون إلَّا عليه. ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ هؤلاء لم يتعرَّضوا للأذى حين يجهرون بما يرونه حقّاً، ويعتقدونه واقعاً وصدقاً.
فكانوا ربّما آذاهم أصحاب العصبيّات، والأهواء والجهالات من الذين يتعاملون مع الفكر والعقل والإيمان بعدوانيّة، ورعونة، وطيش، وسلاحهم النّاب والظِّفر، وكلّ ما هو جارح. وما جرى للشهيدَين وغيرهما خير شاهد على أنَّ بعض الناس لم يفقهوا حتى معنى الحكمة والموعظة الحسنة، والدليل والحجّة، فهم مصداق واضح لقول القائل:
ودعوى القويِّ كدعوى السِّباع
من النابِ والظفر برهانُها
وإن أَعوزَتهم القوة، وحالت الظروف والموانع بينهم وبين البطش والعدوان، فقد يلجأ كثيرون منهم إلى التجنّي في الاتّهام والإسراف في نسبة الأباطيل والترّهات إلى مَن هم بريئون منها براءة الذئب من دم يوسف.
ولن تُجدي نفعاً كلّ أساليب البيان، والتوضيح، والإرشاد والتصحيح، بل ربما دعاهم ذلك إلى مضاعفة إتّهاماتهم الفاجرة، بأساليب أشدّ مكراً، وأكثر غدراً.
ويبقى أولئك المظلومون في دائرة الحيرة، حيث العين بصيرة واليد عن دفع غائلة تلك الأكاذيب قصيرة، كيف وقد قيل:
لي حيلةٌ في من ينمّ
وليس في الكذّاب حيلة
مَن كان يخلق ما يقول
فحيلتي فـيه قلـيلة
غير أنَّ ذلك لم يمنعنا في كتابنا "الصحيح من سيرة النبي الأعظم ؟ص؟" وفي غيره من مؤلّفاتنا، من أن نتجاهل كلّ هذه الأجواء التي قد يثيرها أمثال هؤلاء، وتعاملنا مع الأمور بكلّ عفوية وموضوعيّة، ووضوح، غير آبهين بكلّ الصخب والضجيج الفارغ الذي يُثيره الجاهلون والمتعصّبون، الذين يريدون أن يفرضوا آراءهم بقوّة العضلات، وبضجيج الأصوات، لا بالحُجج والبراهين والبيّنات.
* هل بإمكان القارئ لكتاب "الصحيح من سيرة النبي الأعظم(ص)" أن يستنبط القواعد التأسيسيّة من هذا الكتاب؟
حول استنباط القواعد التأسيسيّة من كتاب "الصحيح"، فلعلّ أدنى مراجعة له تعطي: أنّ الوسائل والأدوات البحثيّة التي استفدنا منها فيه لا تختلف عن غيرها، ما دام أنّ المطلوب هو تمحيص النَّص، والوقوف على مدى صحّته وصدقيّته في حكايته للوقائع والأحداث، فإنّ وسائل البحث في النصوص التاريخيّة هي نفسها التي تُستعمل في تمحيص أيّ نصٍّ آخر في أيّ مجال، أو في أيّ علم آخر.
فالبحث السّنديّ هو نفسه، الذي نجده حاضراً وفارضاً نفسه، وآليّاته.
كما أن النَّظر في العناصر التي اشتمل عليها النَّص، ومحاكمتها، وآليّات تمحيصها، لا يختلف ولا يتفاوت عمّا يكون عليه الحال مع سائر النصوص في مختلف المجالات.
فإذا تضمّن النَّص الإستشهاد بآية قرآنيّة مثلاً، فمن الطّبيعي أن ينظر في مضمون الآية لمعرفة مدى انسجامه مع ما يُراد الإستشهاد بالآية عليه. كما لا بد من معرفة مناسبة نزول الآية، وتاريخ نزولها، فلعلّه سابق، أو لاحق، بالنسبة للحدث الذي يُراد الإستشهاد بالآية عليه.
وإذا تضمّن النص الحديث عن شخص، فلا بدَّ من معرفة إن كان هذا الشخص شخصيّة حقيقيّة أو مخترَعة، وعلى الفرض الأوّل لا بدّ أن يحدَّد تاريخ ولادته ووفاته، وسنّه، وأن تُعرَف أخلاقيّاته وسياساته، وغير ذلك من شؤون، فلعلّ ذلك كلّه، أو بعضه لا ينسجم مع الحدث، الذي يراد نسبته إليه، أو ربطه به.
ولو تضمّن الحدث ذكراً لمسارٍ في طريق، أو حديثاً عن موضع، فلابدَّ من معرفة أن ذلك يتوافق مع واقع المسالك، أو المواضع في أوضاعها التي كانت عليها في زمان الحدث لمعرفة مدى واقعيّة وصحّة ما جاء في النص فيما يرتبط به.
ولو تضمّن النص حديثاً عن مضمون إيماني، أو عقيدة، أو سياسة ذات طابع معين، فلا بدَّ من معرفة مدى توافق ذلك مع الواقع المتيقّن، والمتسالَم عليه في ما يرتبط بالعناصر التي يريد النص أن يربط ذلك المضمون بها.
وهكذا يُقال بالنسبة لسائر العناصر المتوفِّرة في النص الذي يُراد البحث فيه، فإنّ آليّات البحث، والقواعد والمنطلقات تكاد تكون متّفقة، أو متقاربة في ما بينها، حتى عندما يراد البحث في نصّ آخر، في أيّ مجال آخر، بِنَحو يصعب إفرادها بتصنيف يخصّها، ويميّزها عن سائر الآليّات والقواعد، التي يستفاد منها في سائر المجالات.
لكن هذا لا يمنع من أن تفرض خصوصيّتُه التعرّضَ لتفاصيل وجزئيّات تناسب تلك الخصوصيّة، وتحتاج إلى مزيدٍ من العناية بها.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّدٍ وآله الطاهرين.
*المصدر: مجلة "شعائر"، السنة الثانية، العـدد الثالث والعشرون