في وسط خريف القلوب، حين أوراق الأمل الصفراء تسقط على الأرض وریاح الظلم السوداء تهبّ علی جدب حیاة الإنسان، تنبعث من أرض كربلاء أصداء التاريخ لتروي قصة خالدة. إنها ذكرى الأربعين الحسيني، تلك المناسبة التي تحيي في النفوس معاني التضحية والفداء، وتجدد في القلوب عهد الوفاء لمبادئ الإسلام السامية ويضيء شمعة الأمل في ظلمة قلوب الناس.
في هذا الیوم، تتدفق جموع المؤمنين من كل حدب وصوب، يحملون في صدورهم شوقاً لا يوصف، وفي أقدامهم عزماً لا يلين. إنهم يسيرون على درب الحسين (ع)، يتلمسون خطاه، ويستشعرون آلامه وآماله. في هذه المسيرة المهيبة، تذوب الفوارق وتتلاشى الحدود، فلا فرق بين غني وفقير، ولا تمييز بين عربي وأعجمي. الكل سواسية في محراب الحب الإلهي، يلهج لسانهم بذكر الله، وتفيض عيونهم بدموع الشوق والندم.
ليست الزیارة الأربعينية مجرد طقس عابر أو احتفال عاطفي، بل هي مدرسة متنقلة للوعي الإسلامي. في ظلالها، يتعلم الزائرون دروساً في الإيثار والتكافل الاجتماعي. تراهم يتسابقون في خدمة بعضهم بعضاً، يطعمون الجائع، ويؤوون الغريب، ويداوون الجريح. وفي هذا المشهد الإنساني الفريد، تتجلى أسمى معاني الأخوة الإسلامية التي دعا إليها النبي الكريم.
في رحاب الأربعين، يستعيد المسلمون صلتهم بتراثهم الروحي والأخلاقي. يتأملون في سيرة الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(ع)، ويستلهمون من مواقفهم البطولية دروساً في الشجاعة والثبات على المبدأ. وهكذا، تغدو هذه المناسبة فرصة ثمينة لإعادة صياغة الذات وفق القيم الإسلامية الأصيلة، بعيداً عن شوائب التطرف والغلو.
إن الأربعين الحسيني ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل هي نافذة نطل منها على مستقبل الأمة الإسلامية. فمن خلال هذه المناسبة، يتجدد الأمل في نفوس الملايين، ويتعزز إيمانهم بقدرتهم على التغيير والإصلاح. وهكذا، تبقى مسيرة الأربعين شاهدة على حيوية الإسلام وقدرته على مواكبة تحديات العصر، مع الحفاظ على أصالته وقيمه الخالدة.