ليد:
الاجتهاد: من الأُمور المهمّة في بحث مجالس العزاء العلمائية هو معرفة الأهداف والدوافع التي دعت هؤلاء العلماء الأعلام إلى أن يُولوا مجالس العزاء الحسيني العناية الفائقة، مع كثرة أشغالهم ووظائفهم التي تفرضها عليهم مكانتهم وزعامتهم الدينية، ولا شكّ في أنّ هناك أهدافاً قد حقّقها علماؤنا من خلال مجالس العزاء الحسيني، التي كان لهم دور كبير في إقامتها.
متن:
خلاصة المقال: تناول الباحث في هذا العنوان موضوع مجالس العزاء الحسيني التي يكون المحور فيها - بشكل أو بآخر – مراجع الدين أو المجتهدين من علمائنا الأعلام، وقد تكوَّن بحثه من مقدمة وثلاث جهات، تحدّث في المقدمة عن أزمة ابتعاد الناس وعدم انفتاحهم على الحقائق الدينية، والتي من أبرزها وضوحاً هو غياب حقيقة المجالس الحسينية عن أذهان الكثير مع شفافيتها وظهورها لكل مَن أراد التعرّف عليها، تلك الأزمة التي ولدت فجوة كبيرة بين الإنسان وبين ربّه.
وبعد هذه المقدمة قسّم بحثه إلى ثلاث جهات مهمّة دخيلة في الإجابة والبرهنة على فرضيات البحث، وهذه الجهات هي:
الجهة الأُولى: هوية مجالس العزاء العلمائية، وقد تناول فيها الانطباقات الثلاثة التي يشملها العنوان وتنساق إلى ذهن القارئ، والتي تتلخص في: تصدي العلماء والمجتهدين لقراءة المجالس الحسينية بأنفسهم، وإقامة مجالس العزاء الحسيني في بيوتهم ومكاتبهم، والحضور في المجالس مع سائر أفراد المجتمع كسائر أفراد الجمهور المتلقّي.
وأمّا الجهة الثانية: فقد خُصصت لبيان الدوافع والأهداف التي دعت هؤلاء الأعلام للتصدي لهذه المهمّة مع كثرة انشغالاتهم وتشعب مهامهم الدينية، فوُجِدَت من الأهداف والدوافع ما كان أخروياً، ومنها ما كان اجتماعياً ومساهماً في ترشيد المجتمع.
لينتهي البحث في الجهة الثالثة إلى معرفة النتائج والآثار المترتبة على تلك المجالس التي تقوّمت بهذا النوع من الحضور النوعي، وقد ذكر الباحث أنّ النتائج التي ترتّبت جديرة بالاهتمام وكثيرة، إلّا أنّ من أبرزها: تصحيح مسار الخطابة الحسينية، وتقديم الخطباء الأكفاء إلى الجمهور الشيعي، ورسوخ المجالس الحسينية في نفوس الجماهير، وضمان الديمومة والاستمرارية لمجالس العزاء الحسيني.
وقد ختم بحثه بتوصية مقترحة لتطوير الفكرة، وتوسعة الموضوع الذي تناوله ليشمل المجالس الحسينية التي يقيمها أو يشارك فيها ممثلو المرجعية الدينية ووكلاؤها ومعتمدوها.
مقدمة
على الرغم من أنّ العصر الذي نشهده هو زمن التطوّر التكنلوجي، وسهولة تحصيل المعلومات المعرفية بطرق وسبل متنوّعة، إلّا أنّنا نعاني من عدم انفتاح الآخر على الحقائق الدينية، التي تُعدّ المفاتيح الأساسية للتعرّف على مناشئ وجذور الأعمال والسلوكيات المنتمية إلى الدين؛ إذ ما زال الكثير من الناس يعيش حالة من الابتعاد عن الحقائق المهمّة التي تكوِّن الجسم المتكامل للدين، ويشكو من الضبابية والغموض في معرفته لبعض الحقائق الدينية الواضحة، وجهله لبعضها الآخر الذي تتوقف معرفته على النظرة المتأنّية، والإحاطة بالجوانب الدخيلة في تفسيرها، فضلاً عن بعض الزوايا والجزئيات المرتبطة بكثير من العبادات والمعاملات، التي اقتصر على معرفة أصل مفهومها فقط، وهو مع ذلك يفسح المجال لنفسه للمناقشة فيها وفق رؤيته غير المكتملة.
ومن بين الحقائق الدينية التي أسهمت عوامل متعدّدة في تغييبها لدى بعضهم هو ما يرتبط بمجالس العزاء الحسيني -المفردة التي أُدرجت في عنوان بحثنا- إذ مع علنيّتها وبروزها لكلّ مَن أراد الاطّلاع على حقيقتها -نتيجة للشفافية التي تمتاز بها مفردات المراسم الحسينية بكلّ أنواعها- نجد أنّ عدم اكتمال صورتها لدى العديد من الباحثين قد انعكس في تصويره لها حينما عُني بدراستها وتوصيفها في بعض مؤلّفاته؛ بل وُجِدَتْ جذور هذا التهريج والتشنيع على مَن يُقيم المجالس الحسينية في الأزمنة المختلفة؛ الأمر الذي اضطرّ علماءنا إلى التصدّي لبيان مواضع الخلل في تلك التوصيفات المشوّهة، وإثبات عقلانية هذه الحقائق، فضلاً عن مشروعيّتها، وتأكيد استحبابها، وترتّب الآثار الدنيوية والأُخروية الكثيرة عليها.
وتبدو الصورة أكثر وضوحاً للقارئ الكريم فيما لو سلّطنا الضوء على المجالس الحسينية لدى العلماء، أو ما عبّرنا عنه في عنوان بحثنا بـ"مجالس العزاء العلمائية"؛ إذ إنّ هذه النقطة المهمّة والمحورية في مجال العزاء الحسيني لم تلتفت إليها الغالبية العظمى من الباحثين الذين كتبوا عن ذلك، فضلاً عن عامّة الناس، مع أنّ إبرازها للقارئ وتوضيح معالمها يُسهم إسهاماً كبيراً في معرفة الدور الكبير الذي يقوم به علماؤنا الأعلام في إصلاح الجوانب المحورية للمنبر الحسيني، والأثر الملموس في ديمومة نهضة سيّد الشهداء(ع) وحفظها في نفوس الجمهور.
الموضوع
إنّ فرضية البحث تبتني على أنّ مجالس العزاء الحسيني قد حظيت بعناية خاصّة وفائقة من قِبل مراجع الدين والعلماء المجتهدين؛ إذ تصدّوا لها، وتولّوا شؤونها بأنفسهم، وهو ما يبرهن على اهتماماتهم البالغة بهذا النمط من المراسم الحسينية أكثر من غيرها، مع إيمانهم بمشروعية معظم النماذج الأُخرى التي شاركوا في بعضها أيضاً، وحثّوا مقلّديهم عليها.
كما أنّ هناك فرضيّتين أخريين ترتبتا على ما تقدّم، وهما: وجود أهداف ودوافع دعت علماءنا ومراجعنا إلى القيام بهذه الممارسة الهادفة، وأنّ هذه المجالس العلمائية قد حقّقت نتائجها وأعطت ثمارها بالشكل الذي خُطِّط له من قِبَلهم.
وقد تألّف بحثنا من عدّة مسائل دخيلة في معرفة مدى صحّة الفرضيات التي ذُكرت سلفاً، أو أنّها مبتنية على مقدّمات خاطئة لا بدّ من إعادة النظر فيها؛ إذ لا بدّ من تناول المعنى الذي أُريد في هذه الفرضية، والدوافع التي دعتهم إلى ذلك، على أنّ معرفة الآثار والنتائج المترتّبة على هذه المجالس لا تقلُّ أهمّيتها عن معرفة الأهداف والدوافع، إن لم نقل: إنّها تفوقها بكثير؛ ولذا فقد انتظم البحث في جهات، سنذكرها في الصفحات الآتية:
الجهة الأُولى: الصدق المفهومي لمجالس العزاء العلمائية
إذا كان للمفردة التي يراد بحثها أكثر من معنى ينساق إليه ذهن القارئ أو (المتلقّي) حينما يواجه هذه المفردة؛ فمن المتحتّم جدّاً -ومن الأساسيات المهمّة في واجهة البحث- تحديد النقاط المراد تسليط الضوء عليها، وبما أنّ موضوع بحثنا يحمل هذه الخصوصية؛ فسنتناول الانطباقات المتوقّعة والمرادة في بحثنا هذا، وهي:
الانطباق الأوّل: تصدِّي العلماء لقراءة المجالس العزائية
لم تكن مهمّة قراءة المجالس الحسينية في بداية انطلاقها موكولة إلى طلاب العلوم المنتسبين إلى الحوزات الدينية، فضلاً عن علمائها ومراجعها؛ بل كان الباب مفتوحاً أمام كلّ مَن أراد أن يكون ناعياً للحسين(ع) وأهل بيته، على المصيبة التي حلّت بهم، وبيان مظلوميتهم؛ ولذا فقد تصدّى لهذه العملية بعض الأشخاص الذين يجيدون نظم الشعر وإلقاءه، أو الذين حفظوا المقطوعات الشعرية والنثرية، بالإضافة إلى النصوص التاريخية المرتبطة بواقعة كربلاء الدامية، وغير ذلك من النصوص التي تساعد في استدرار الدموع.
وكانت هذه الشريحة من القرّاء تُعرف بـ"النائحين"، أو "المنشدين"، فقد تعارف في ذلك الزمان إنشاد الشعر على سيّد الشهداء(ع)، وفي العرف الحوزوي -في بعض عصورنا المتأخّرة وفي بعض البلدان- بـ"روضه خوان" أو (قارئ العزاء)، وغير ذلك من المسمّيات، إلى أن تطوّرت المجالس الحسينية، وأصبحت متطلّبات القراءة فيها تستلزم أن يكون القارئ قد اجتاز بعض المراحل العلمية في المجال الديني؛ نتيجة لمتطلّبات العصر، وضرورة المواكبة، إلى جانب الاعتراضات التي وجّهها علماؤنا إلى الأُسلوب التسطيحي -الذي يستخدمه بعض الخطباء المنبريين- في تعريف نهضة سيّد الشهداء(ع) للجمهور.
حينها تصدى بعض أفراد الحوزة العلمية الذين قطعوا شوطاً طويلاً في تحصيل العلوم الدينية داخل الأروقة العلمية الحوزوية، وأمسكوا بأيديهم زمام المبادرة، ليُحدثوا نُقلةً نوعيةً في تاريخ المنبر الحسيني، كما أنّهم -في الوقت ذاته- عملوا على تنشئة جيل جديد من الخطباء الذين يحملون مواصفات الخطيب الحسيني الناجح، من خلال إعداد تلامذتهم المؤهّلين للقيام بهذه المهمّة الصعبة وفق الآليات والوسائل المحدودة آنذاك، وكلّ ذلك كان نتيجة طبيعية ومتوقّعة للأصوات التي علت لإصلاح واقع المنبر الحسيني.
إلّا أنّ اللافت للنظر والجدير بالاهتمام أن يجد القارئ أنّ طيفاً من علمائنا الأعلام والمراجع والمجتهدين -الذين حازوا على مرتبة الاجتهاد، واشتغلوا بتدريس البحث الخارج- قد انضمّوا إلى قافلة قرّاء المجالس الحسينية؛ واشتُهروا بارتقائهم المنبر الحسيني في المواسم التبليغية، أو المناسبات الدينية المهمّة، وقد تركت شخصياتهم التحقيقية والعلمية أثرها الواضح في المجالس التي يلقونها على الجمهور، كما أنّ لدخولهم في هذا السلك الصعب أثره البالغ في تصحيح مسار المنبر الحسيني، ورسوخ الكلمة التي نطقوا بها في نفوس المتلقّين.
ونحن في الوقت الذي نصدّر هذه النقطة بالعنوان المذكور آنفاً، ننوّه إلى أنّنا لا نهدف إلى الانتقاص من سائر الخطباء الذين لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، والتقليل من شأنهم العلمي والتحقيقي، كما أنّنا لا نريد أن نصادر جهودهم وإسهاماتهم القيّمة في تحقيق نتائج مهمّة خلال مسيرتهم الطويلة في الطريق المبارك؛ فإنّ منهم مَن وصل إلى مستويات عالية، ومراحل متقدّمة في التحقيق والتأليف، وبقيَ منشغلاً بتدريس مراحل السطوح والسطوح العليا -كما يصطلح عليه في الحوزة العلمية- وإنّما سلّطنا الضوء في حديثنا على العلماء الذين لم يتركوا مهمّة قراءة المجالس الحسينية رغم انشغالهم وتصدّيهم للإفتاء، أو تدريس البحث الخارج لطلاب العلوم الدينية؛ لما لهذا الإسهام القيّم من تأثير مضاعف في نفوس الجمهور.
ولذا نبيّن للقارئ الكريم أنّ مقصودنا من مفردة العلماء في هذا العنوان هو مَن وصل إلى مرتبة جعلته في مصافّ مراجع التقليد، ومتصدّياً للإفتاء، أو حصل على مرتبة الاجتهاد، وأصبح من العلماء البارزين في الأوساط الدينية، واشتغل بتدريس وتأهيل طلبة العلوم الدينية في دروس البحث الخارج، وهو لم يزل يحرص على قراءة المجالس الحسينية.
وهذا المعنى الذي ذكرناه من أوضح المعاني المنساقة إلى الذهن عند مطالعتنا لعنوان البحث؛ إذ يُفهم منه أنّنا في صدد التعريف بالمجالس الحسينية التي يقرأها العلماء الذين توافرت فيهم الخصائص المتقدّمة.
وقد حفظ لنا التاريخ قائمة كبيرة بأسماء العلماء والفقهاء الذين عُرفوا بارتقائهم المنابر لقراءة المجالس الحسينية، أو مقتل الإمام الحسين(ع) ـ إلى جانب الإسهامات المنبرية الأُخرى التي قاموا بها، كنظم الشعر الحسيني، وكتابة المواضيع التحقيقية التي ترفد الخطيب بالمادّة العلمية التي يريد إلقاءها على الجمهور. إلّا أنّنا نهدف في هذه النقطة إلى العلماء الذين قرأوا المجالس الحسينية، وعُرفوا في الأوساط الحوزوية بهذه الوظيفة السامية، وبما أنّ ذكر أسمائهم هنا يخرجنا عن الاختصار؛ فإنّنا نكتفي بذكر عيِّنات ونماذج من بعض علمائنا الماضين (قدّس الله أسرارهم)، ومن المعاصرين أيضاً:
1ـ فمن أبرز العلماء الذين اشتُهروا بالخطابة الحسينية والوعظ والإرشاد هو آية الله الشيخ جعفر التستري، فقد ذكر العلّامة الأمين(ره) أنّه: "كان عالماً من أعلام العلماء، فقيهاً، واعظاً، له شهرة واسعة، واشتُهر بالوعظ والخطابة، وكانت تجتمع الأُلوف تحت منبره لسماع مواعظه… [مع أنّه كان:] رئيساً مطاعاً، مرجعاً في التقليد والأحكام، وكتب رسالته المعروفة بمنهج الرشاد بالفارسية، وأخذ في الوعظ في شهر رمضان وغيره، ونبغ في ذلك؛ بحيث لم يُعهد له نظير، وترتّب على وجوده آثار جليلة".
2ـ وأمّا العلماء المعاصرون الذين ننعم ببركات وجودهم وفيوضاتهم، فمن أبرزهم آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني (دامت بركاته)؛ إذ بقيَ سماحته مواظباً على قراءة مجالس العزاء الحسيني طيلة السنين التي أنعم الله تعالى بوجوده على الأُمّة الإسلامية، وقد نتج عن خطابته الحسينية أن تمّ طبع محاضراته القيّمة ضمن مجموعة من الكتب القيّمة، من بينها كتاب "مصباح الهدى وسفينة النجاة"، وقد احتوى على سبع وعشرين محاضرة موجِّهاً خطابه فيها إلى: "… علماء الحوزة العلمية وفضلائها، بما فيهم أساتذة الدراسات العليا والفقهاء والمجتهدون؛ من هنا جاءت بعض المطالب متناسبة في بيانها مع هذا المستوى من المخاطبين"، يتحدّث فيها عن مقامات الإمام الحسين(ع) ومنزلته، وبعض الجوانب المهمّة في معرفة الإمام الحسين(ع).
3ـ ومن أبرز العلماء المعاصرين -الذين عُرفوا في الساحة الخطابية- أُستاذنا العلّامة الحجّة آية الله السيّد منير القطيفي الخبّاز (أطال الله في بقائه)؛ فقد عُرف سماحته بقراءة مجالس العزاء والخطابة الحسينية، وما زال مستمراً في نشر فكر أهل البيت(ع) عن طريق منبر سيّد الشهداء(ع) بأُسلوبه العلمي، وقراءته المتأنّية للمعارف الدينية، فيقدّمها للمتلقّي بأُسلوبه المفهوم، وبيانه السهل الممتنع، مستثمراً في ذلك المناسبات الدينية التي ينتشر فيها المبلِّغون في البلدان الكثيرة.
الانطباق الثاني: مجالس العزاء الحسيني المقامة في بيوت العلماء
إنّ إصرار مراجع الدين والعلماء المجتهدين وحرصهم على إقامة مجالس العزاء في بيوتهم، أو تخصيصهم مكاناً مستقلاً لإقامة العزاء الحسيني، بات من الوضوح بمكان لدى كلّ مَن له اهتمام ومتابعة للسيرة الذاتية لعلمائنا الأعلام، وقد وثّق بعض الباحثين جملة من المجالس الحسينية التي يُقيمها هؤلاء المراجع والعلماء الربّانيون على مدار أيّام السنة، وتحديداً في كلّ أُسبوع مرّة؛ فذكر المجالس التي كان يقرأها بعض الخطباء قائلاً: "وحدّثني -وكتب إليَّ في أوليات ترجمته- بأنّه كان يقرأ أُسبوعياً في بيوت المراجع ومجالس العلماء، وكان من أبرزها: مجلس المرحوم الميرزا عبد الهادي الشيرازي، مجلس المرحوم السيّد عبد الله الشيرازي، مجلس المرحوم السيّد محمود الشاهرودي، مجلس المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني، كما قرأ مقدّمة للسيّد كاظم القاضي في دار السيّد الحكيم، بمناسبة شهر رمضان المبارك لعامين متتالين".
كما أنّ بعض العلماء الذين عُرفوا باهتمامهم بمجالس العزاء قد سُجِّل لهم حرصهم على إقامة العزاء في المناسبات المختلفة كافّة مع كثرتها، فضلاً عن مجالس علمائنا المعاصرين الذين حضرناها بأنفسنا في مدينة النجف الأشرف، وهي كثيرة جدّاً.
ونتيجة لكثرة مجالس العزاء العلمائية التي يُقيمها علماؤنا الأعلام في بيوتهم، ولشدّة إصرارهم على إقامة العزاء الحسيني، فقد توزّعت مجالسهم الحسينية في أوقات مُعيّنة لا يتصادم بعضها مع بعض، كما شهدنا هذا الانتظام في المجالس التي يُقيمها علماؤنا المعاصرون (أطال الله بقاءهم) في النجف الأشرف، وبعد التتبّع والسؤال عن بعض هذه المجالس الحسينية العلمائية، وجدنا أنّ جذورها ممتدّة إلى أزمنة بعيدة لمراجعنا الماضين (قدّس الله أسرارهم)، وقد حرص العلماء من أبنائهم أو أحفادهم على إحياء ما غرس بذرته الآباء العظماء إلى يومنا هذا.
الانطباق الثالث: مجالس العزاء الحسيني التي يحضرها العلماء
بقيت لنا صورة أُخرى يتجلّى العنوان فيها، وينطبق عليها، وإن لم يكن بذلك الوضوح والانطباق الذي تقدّم في النقطتين المذكورتين آنفاً، إلّا أنّ الخواص المشتركة في بعض الجوانب التي كُتب البحث من أجلها -وهي تحقّق الأهداف والنتائج- جعلنا نسوّغ لأنفسنا ذكرها هنا؛ إذ إنّ حضور العلماء ومراجع الدين في المجالس الحسينية يشجّع الناس على مواظبة الحضور اقتداءً بهم؛ باعتبارهم ورثة النبي(ص)، والسائرين على سيرته، وقد أمرنا الله تعالى أن نجعله أُسوة حسنة.
وقد حفل هذا النمط من المجالس بحضور المراجع العظام والفقهاء والعلماء، وكذلك سائر أهل الفضل من طلبة العلوم الدينية؛ وفي هذا الصدد يقول بعض الباحثين: "وإن أنسى لا أنسى مجلس العالم الورع السيّد نصر الله المستنبط في طرف البراق، خلف المدرسة الشبّرية، الذي كان يغصُّ بكبار مراجع الدين، وحشود أهل البيت، وسائر المؤمنين؛ فترى الناس تبحث لها عن مكان، حتّى ولو على الشرفات والسلالم المؤدّية إلى الطابق الثاني…".
ولم تغب صورة ذلك الحضور البهي لعلمائنا ومراجعنا الكرام من ذاكرة كبار خطبائنا الماضين والمعاصرين، وهم يحدّثوننا عن مجالسهم العامرة في مدينة النجف الأشرف، تلك الصورة التي كان لها الأثر الكبير في صقل شخصية أُولئك الخطباء، الذين عاشوا حياتهم قامات شامخة في عالم المنبر الحسيني، كما لا تغيب صورة علمائنا الأعلام من مراجعنا المعاصرين (أدام الله بقاءهم)، وهم حاضرون في المجالس التي نحضرها في النجف الأشرف في الأيّام التي لم نوفّق فيها للسفر التبليغي؛ إذ وفّقنا الله (عز وجل) للحضور والمشاركة في مجالسهم المباركة.
تتابع
المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء، "مجلة الإصلاح الحسيني"، العدد الثامن والعشرون