printlogo


printlogo


مقالة
خطر وعّاظ السلاطين

 قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة، 2).
لقد حدّد الله في هذه الآية من سورة الجمعة المباركة مجموعة وظائف كلّف بها النبيّ(ص) لتحقيق الهدف الإلهيّ للبعثة وهو إخراج النّاس من الظلمات إلى النور، ومن هذه المقدّمات الموصلة إلى هذا الهدف تعليم النّاس الذي به يخرجون من ظلمات الجهل إلى نور العلم، بإنارة عقولهم، كما عمل على تربية النّفوس لإنارة هذه النّفوس وقلوبها، فهناك ظلمات أخرى متأتّية من أمراض تعتري الأفراد والجماعات من الانحرافات السلوكيّة، والانحرافات في ممارسة الاجتماع الإنسانيّ، من العصبيّات وغير ذلك.
إلّا أنّ أسوأ الظُّلمة ظُلمة القلب، وأساس كلّ ظلمة، ظلمة العقل، فإذا تشوشّت الأمور عند العقل فإنّ الإنسان يفقد وضوح الصورة، خصوصاً بالنسبة إلى الله سبحانه تعالى، فإنّه يفقد الصورة الصحيحة والواضحة للإنسان ودوره ووظيفته. فحينها لا بدّ أن يكون سيره على غير الطريق الموصل إلى الأهداف المتوخّاة من أصل وجود الإنسان، وهو معرفة الله وعبادته، كما أنّ من أهداف الإسلام نظم الحياة والعلاقات وتقديمها بما يجعل الحياة ظرفاً مملوءاً بالنّور من خلال إشراقة العلم المتحوّل عملاً وسلوكاً، فلا بدّ من التعلّم لمعرفة المنظومة الضابطة لسلوك الإنسان فرداً وجماعة بما يجعلهما مستقيمين في علاقاتهم وأعمالهم، وأخلاقهم ومسؤوليّاتهم في طريق السعي نحو الأهداف، وعليه فالعلم إنّما يكون للعمل هنا، وحتّى العلم الذي يعنى بمعرفة الله، هذا العلم الثاني هو وسيلة تحوّله إلى عمل، والمشكلة دائماً كانت في أحد أمرين: إمّا تخبّط الإنسان في الجهل وظلماته قاعداً عن تحصيل العلم، وإمّا في تخلّف العمل عن العلم وهو نحو آخر مموّه شيئاً عن التخبّط في ظلمات الجهل.
من هم معلّمو البشر؟
لا شكّ كما قدّمنا أنّ أصل هذه المسؤوليّة وهذه الوظيفة تقع على عاتق الأنبياء والأولياء(ع) ولكنّهم قلّدوها العلماء كما في مدلول الحديث الشريف: "العلماء ورثة الأنبياء".
فعلى عواتقهم تقع مسؤوليّة بثّ العلم وترويجه، وكذلك عليهم مسؤوليّة ضرب النموذج العمليّ لمن يتحمّل هذا العلم، ليكونوا نماذج بسلوكهم وأخلاقهم تدعو إلى الله والحقّ. وكان حرام عليهم كتم العلم والقعود عن بيانه عند الحاجة إليه. وعليهم مسؤوليّة إمساك قلوب النّاس عند هبوب رياح الضلال والشكوك.
وكلّ ذلك يفترض قرنه بالعمل كما جاء في الحديث الشريف: "العلم يهتف بالعمل فإن أطاعه وإلّا ارتحل عنه"..
وممّا جاء عن الإمام الباقر(ع): "إذا سمعتم العلم فاستعملوه، ولتسع قلوبكم فإنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه فإن خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون، فإنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً"، فقلت وما الذي نعرفه؟ قال(ع): "خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عزَّ وجلَّ"..
وعّاظ السلاطين:
ولقد أضاءت سماء العلم والعمل، والتبليغ، بكواكب من العلماء الأفذاذ العاملين بعلمهم، والواعظين بسيرتهم، فغدوا قدوات في طريق الهدى يتمثّلها النّاس، لكن ثمّة آخرون سقطوا وقد ذكر لنا النبيّ(ص) والأئمّة والقرآن نماذج من هؤلاء المنحرفين من ذوي العلم، وممّا جاء في التنزيل في حقّ أحدهم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ  وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾.
وخلاصة ما أرادته الآيات عن هذا الذي كما يروى أنّ اسمه بلعم بن باعورا كان من قوم موسى(ع) وبلغ من المقام أنّه كان يعرف بعضاً من أحرف الاسم الأعظم لكنّ الشيطان أوغر قلبه حسداً فأراد أن يدعو على وليّ الله أو نبيّ الله فأصبح كما وصف القرآن.
والآيات تقول إنّه كان عالماً لكنّه في لحظة خرج لبوس علمه ومقتضى معرفته بأن أراد بها ما يرمز إليه الإخلاد إلى الأرض من طلب الدنيا بعلمه ومعرفته، مع أنّ من شأن هذا العلم أن يرفعه في درجات السموّ إلى العلياء، بمعنى آخر أطاع ترابيّته وعصى روحانيّته.
ومن أهمّ ما ابتلي به الإسلام ولا يزال طائفة من حاملي العلم موسومون بأنّهم علماء البلاط ووعّاظ السلاطين الذين يقومون بتسخير علومهم في خدمة الحكّام والظلَّام.
حقيقة حركة وعّاظ السلاطين:
1- خداع النّاس بالعلم:
إنّ للعلم سحره الأخّاذ الذي يؤثّر في العقول والنّفوس، ولئن كان السحرة يسحرون أعين النّاس فإنّ بضاعة هؤلاء التي يتسلّطون بها على النّفوس ليست حبالاً ولا عصيّاً وإنّما هي العلم، فيستغلّون جاذبيّة العلم وقداسته وقداسة العلماء ليجعلوا منهما بريقاً يخطف أبصار النّاس وعقولهم، فيلبسون الحقّ بالباطل ويخدعون النّاس، وهؤلاء بما يوهمون النّاس أنّه من العلم يكوِّنون لهم وعياً زائفاً عدّته زيّهم وأسلوب كلامهم المنمّق المدبّج.
2- استغلال ثقة النّاس:
لقد بنى العلماء المقدّسون الصالحون في ضمير البشريّة مقاماً شامخاً للعلم والعلماء، ممّا أورثهم على طول المسيرة البشريّة وعلى امتداد الأجيال ثقة وإجلالاً واحتراماً وحتّى قداسة، فوعّاظ السلاطين والفاسدون من العلماء يستغلّون هذه الثقة ويجعلونها رأس مالهم الذي به يدخلون إلى مشاعر النّاس وعقولهم وقلوبهم ويؤثّرون فيها، وذلك ليأكلوا الدنيا فيشترونها ويجعلون علمهم ثمناً لهذه الدنيّة وسلّماً يرتقون به مناصبها.
3- علم حقّ وعمل باطل:
إنّ الكثير من وعّاظ السلاطين يملكون معرفة صحيحة، لكنّهم يسيرون بخطى الباطل، لأنّ أهواءهم حدّدت لهم أهدافهم، وشهواتهم قائدهم إليها، ففي الوقت الذي يملكون معرفة بالله والشريعة في عقولهم لكن قلوبهم مأوى الشياطين كما جاء عن النبيّ الأكرم(ص): "أوحى الله إلى داود(ع)، لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي، فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم".
خاتمة: وعّاظ سلاطين في كربلاء:
ولقد ابتليت النهضة الحسينيّة بنماذج من وعّاظ السلاطين وهم كثر، إلّا أنّ من أبرزهم كان شريح القاضي، الذي كان له دور في تخذيل النّاس عن مسلم بن عقيل، من خلال استغلال منصبه كقاضٍ، فعمل على إخماد ثائرة المذحجيّين بالكذب عليهم حتّى لا يقتحموا دار الإمارة، فصدّقوا كذبه وأيمانه المغلّظة وتفرّقوا، وتمّ استفراد هانئ بن عروة، ومن بعده مسلم، وأُخمدت الثورة المناصرة لحركة الإمام الحسين(ع) وكانت هذه الخطوة هي الخطوة الرئيسيّة التي بعدها تخاذل النّاس عن مسلم وعن الحسين(ع) وأدّى ذلك إلى أن دانت الكوفة وسلّمت قيادها لابن زياد.
فكان لشريح نصيب في دم شهداء النهضة الحسينيّة لا يقلّ عن نصيب ابن زياد وابن سعد وأضرابهما (لعنهم الله جميعاً).
المصدر: كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.