ليس من المبالغة القول إنّ الحروب الحقيقيَّة هي تلك التي يُشكّل المُعتدي فيها وعيًّا جديدًا للطرف الآخر بهدف السيطرة عليه والتأسيس لقدرته على بسط نفوذه وهيمنته على الموارد المادّيَّة والبشريَّة عدا عن السلوكيَّة. ولطالما حَفِلَ التاريخ بنماذج من حروب القوَّة الناعمة التي أثبتت فعاليتها كبديل حقيقي عن الحروب العسكريَّة. وليس أكثر دلالة على ذلك ممَّا جرى في تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق ومحاولات الولايات المتّحدة للخروج من حقبة الحرب الباردة، فكانت النتائج على حدّ تعبير بعض المحلّلين: "قدَّم الإتحاد السوفياتي 20 مليون ضحيّة خلال الحرب العالميّة الثانية ولم ينهزم، لكنَّه تفكَّك عندما أصبح الشعب الروسيّ يحلم بالصورة التي بناها الإعلام الغربي من خلال الأفلام والمسلسلات وغيرها".
كثيرةٌ هي الحروب التي خاضَتها البشريّة عبر التاريخ، فكانت النتائج تتأرجح بين القدرة على السيطرة وبين تحقيق الأهداف المرسومة، إلَّا أنَّ السِمة الأبرز لمُعظمها هي عدم القدرة على تحقيق أهداف استراتيجيّة تفرض سطوة المُعتَدي بكلّ الأبعاد، لذلك عمل المنظّرون في مراكز الدراسات على التأسيس لاستراتيجيّة أخرى يُمكن من خلالها تحقيق الأهداف من دون أيّ خللٍ وتساهم في تحوّل الآخر قيميًّا وذهنيًّا، ما يُسهّل استلابه في أيّ زمان وبأيّ أسلوب.
من هنا كانت فكرة القوَّة الناعمة التي تشكّل جوهر ما عُرف بالحرب الناعمة والتي تذهب بعيدًا عن الاستراتيجيَّات الآنيَّة والأهداف المادَّيَّة البسيطة، إذ تصبح هذه الأمور سهلة المنال، بسيطة التخطيط، أمام القدرة على إرغام الآخر عبر إقناعه وتشكيل وعيه وتصوّراته.
وإذا كانت فكرة القوَّة الناعمة قد بدأت تباشيرها من وزارة الدفاع الأمريكيَّة، فقد كان الأمريكي واضحًا في رسم معالم الإستراتيجيَّة الجديدة، وقد حدَّدها أحد أبرز منظّريها قائلًا: "ترتكز القوَّة الناعمة في القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين". أمَّا فلسفة هذا النوع من القوَّة فقد جاء على لسانه قائلًا: "عندما تتمكّن من جعل الآخرين يُعجَبون بمثلك ويريدون ما تريد، فإنَّك لن تُضطّر إلى الإنفاق كثيرًا على العصي والجزرات...".
استنادًا لم سَبَق، يعود جوهر الحرب الناعمة إلى القدرة على التحكم بذهن الإنسان، أي تشكيل الوعي. فالحرب بواسطته عبارة عن إستراتيجيَّة يعتمدها الخصوم، وتعبّر عن مجمل العمليَّات والأدوات، التي تسعى بواسطتها جهات معيّنة للتأثير في مفاهيم وقِيم وتصوّرات ومُثُل، ومن جهة أخرى لتحقيق أهداف كان ينبغي تحقيقها من خلال الأدوات العسكريَّة الخشِنة. ويتميّز هذا النوع من الحروب:
- خفيّ وغير بيّن المعالم ومقبول لدى المستهدف، لأنّ تشكيل الوعي يتطلّب الإقناع والقبول من خلال أدوات متعدّدة، إلا أنّ الجاذبيَّة والانبهار يلعبان الدور الأساس فيها. فعندما نتبادل فكرة ضرورة اللحاق بالغرب بكلّ ما أنتج، فما ذلك إلّا لأنَّه أقنَعنا بأنَّه تطوّر على مختلف الصعد ولأنَّنا ما زلنا بعيدين عن ركب الحضارة، وقد أثبتت الدراسات والأبحاث الكولونياليَّة الأهداف الماورائيَّة لقيم الغرب وثقافته، حتى أضحت الأداة تحمل في طيَّاتها ثقافةً وفِكرًا.
- ضمانة تحقيق النتائج والأهداف، فلا يُمكن لمن استحال وعيه إلى وعي بعيد عن منظومته الفكريَّة وهويّته الذاتيَّة أن يعود إليها حتى على المدى الطويل، من هنا كان الآخر يشجّع على الأدوات التي تبعث على الانبهار كهوليوود ووسائل التواصل والاتصال الجمعي لقُدرتها على تحويل الهوية بالكامل.
- يساهم في الصيرورة الحضاريَّة الجديدة التي يقودها ما يُعرف بـ"الغرب" والتي جرى التعبير عنها بمفاهيم متعدّدة كالعولمة وما تلاها من مفاهيم، والتي يُراد منها جعل العالم المتعدّد واحدًا في القيم والاستراتيجيات والأهداف والتحرّك لتحقيق مرحلة ما بعد الحداثة، وممّا يترتّب على ذلك إلغاء الآخر بهويته وقيمه ومنظومته الخاصّة.
أثناء الحديث حول الحرب على الوعي لا بد من التوقف عند بعض الحقائق والحيثيات وهي:
- الحرب على الوعي واحدة من أبرز مصاديق استراتيجيَّات الحرب الناعمة. هذه الحرب التي أُدرجت ومنذ سنوات طويلة ضمن برامج ومخطّطات دول عديدة أبرزهم الولايات المتحدة الأمريكيَّة التي لم يُخْفِ مُنظِّروها اتّجاههم نحو تغيير الوعي عند الآخر والقضاء على قيم المستهدَف بُغية تحقيق أهداف سياسيَّة واقتصاديَّة وتوسّعيَّة بالدرجة الأولى. من هنا ينبغي التعامل مع الحرب على الوعي كونَها حربٌ حقيقيَّة -وإن كانت خَفِيَّة الظهور- تخدم أهدافًا بعيدةً كلّ البُعد عن قيم وآمال وطموحات ومعارف الطرف المُستهدَف.
- تبرز في الحرب على الوعي جدليّة العلاقة بين الحقّ والدليل من جهة، والاستهداف والباطل من جهة أخرى. بعبارة ثانية عندما نتحدث عن حرب على الوعي فنحن نُشير إلى مجموعة من العمليَّات المقصودة والمُخطّط لها بشكل دقيق، بُغية استلاب ما يملكه الآخر. وهذا يعني أنّ من يلجأ إلى حرب الوعي عادةً، يُدرك الحقيقة ولكنَّه يعمد إلى تحريفها وتشويهها وإخفاءها لتحقيق غايات واضحة لديه.
- من المهم جدًا الإشارة إلى أنّ الحرب على الوعي تتطلَّب من المستهدَف رسم منهجيَّة واضحة في التحليل وقَبول الأفكار والقِيم وتَبَنِّي المُعتقدات والتصوّرات. وهنا لا بد من أن يكون الحقّ هو العامل الأساس والمحرّك في القبول والدفاع عن الأفكار. وهنا ينبغي وجود مقدار كبير من الوعي والتخطيط في التعامل مع كلّ الأفكار الواردة. بعبارة أخرى، لا بدَّ من القيام بعمليَّة تدقيق منهجي لكلّ ما نتبنى، عدا عن ضرورة إعادة فهم هويّاتنا وشخصيّاتنا وكلّ متعلّقاتهما، انطلاقًا من مبدئيَّة الحقّ والوضوح. وبذلك يعجز العدو عادة عن تحقيق الأهداف التي يُمرّرها عبر الحرب الناعمة.
أثبتت الدراسات والتجارب العلميَّة، من حيث المبدأ، إمكانيَّة تشكيل الوعي والسيطرة عليه، فقد عَمَدَت وزارة الدفاع الأمريكيّة، بمساعدة أمهر الأطباء وعلماء النفس وأصحاب الاختصاص، إلى إجراء تجارب وعمليَّات نفسيَّة وحِسّيَّة لبرمجة الوعي وتشكيله، ثَبُت من خلالها إمكانيَّة إحداث تغييرات في الرأي العام من خلال برامج مخصّصة لذلك. كما أشارت الدراسات إلى إمكانيّة برمجة سلوك الفرد من خلال التأثير الخارجي المباشر في البُنية والعمليَّات البيولوجيَّة فيه، وأكّدت أنَّ هذه المحاولات هي أساليب للهيمنة والقهر وتطويع الآخر.
إنَّ تشكيل الوعي هو مدخلٌ لإدارة الحرب الناعمة التي ينبغي أن تُؤخَذ على محمل الجدّ، والتخطيط للحفاظ على الوعي المُلتصق بالهويَّة حتى لا تصبح وسائل للاستلاب وتعرية الشعوب من قِيمها وثقافتها وبالتالي هويَّتها.
المصدر: مرکز المعارف للدراسات الثقافیة