لا أحسب أن هناك فذاً من أفذاذ العقل الإنساني من يضارع أهل البيت(ع) في مواهبهم وعبقرياتهم التي امتدّت مع الزمن وسرت موجاتها لتطوير الفكر الإنساني وتنمية الوعي الديني والاجتماعي والسياسي لجميع شعوب الأرض.
لقد فجروا ينابيع العلم والحكمة في الشرق، وأسسوا في دنيا العرب من العلوم ما يزيد على ثلاثين علماً، مضافاً إلى آرائهم المشرقة في مختلف مجالات الحياة.
إن الطاقات العلمية الهائلة التي بثّها أهل البيت(ع) ونخص بالذكر منهم موضوع بحثنا الإمام الحسين ابن علي(ع) قد ساهمت مساهمة إيجابية في صنع الحضارة الإنسانية، وبلورة الفكر الاجتماعي، وهي بجميع أبعادها ستبقى أعظم رصيد يملكه المسلمون ويفخرون به على أمم العالم وشعوب الأرض، والمرء منذ وجوده يسعى إلى أن لا يترك أبناءه دون وعظ ونصح وإرشاد وتنشئة صالحة وكان الإمام الحسين ابن علي(ع) تواقاً إلى ذلك فيما نقل من العلوم، إذ حظيت هذه العلوم التي نبه لها في أقواله وما أقره في أفعاله بكثير من الاهتمام من لدن العلماء والباحثين المعاصرين ولعل بعضها قد توافق مع ما أقره علماء النفس فيما اختص منها بالعلوم التربوية لاسيما التنشئة الاجتماعية والتي تعتبر من أدق العمليات وأخطرها شأناً في حياة الفرد لأنها الدعامة الأولى التي ترتكز عليها مقومات الشخصية، إذ تؤدي البيئة الاجتماعية المحيطة بالفرد دوراً بالغ الأهمية في تشكيل شخصيته وتحديد أنماط سلوكه، وفي تزويده بالمعارف والمهارات والخبرات الاجتماعية اللازمة من أجل استمراره، وتمكنه من مجابهة مواقف الحياة الخارجية المختلفة. ومن هنا جاءت فكرة بحثنا هذا والمتضمن مبحثين تناولت في المبحث الأول مفهوم التنشئة الاجتماعية وأهدافها ودور المجتمع والأسرة والمدرسة فيها وأساليب تطبيقها وآثارها أما المبحث الثاني فقد تناولنا فيه أشكال التنشئة الاجتماعية في سيرة الإمام الحسين ابن علي(ع) وهو اكتساب السلوك المرغوب فيه والقيم الاجتماعية المقبولة.
*المبحث الأول: مفهوم التنشئة الاجتماعية
* التنشئة الاجتماعية:
التنشئة الاجتماعية عملية تعليمية تبدأ من الأسرة وتنتهي بالمجتمع الكبير وتراعي عدة أمور: كيف يكون سلوك الطفل؟ كيف يواجه الأزمات وكيف يتكيف تكيفاً سليماً مع مجتمعه؟ وهي تدور حول أنواع السلوك وقيم التنشئة الاجتماعية.
* أهداف التنشئة الاجتماعية:
إن التنشئة الاجتماعية عملية معقدة ومتشعبة الأهداف تستهدف مهام كثيرة وتحاول بمختلف الوسائل تحقيق ما تصبوا إليه ويبقى محتوى ومضمون عملية التنشئة الاجتماعية يختلف من مجتمع إلى آخر وتكون الشخصية الفردية كمعطى من المعطيات ذات أنماط مختلفة باختلاف تلك الثقافات والتي تحدد مضمون التنشئة الاجتماعية منها ما يأتي:
• اكتساب الصفة الاجتماعية، والحفاظ على فطرته السليمة وإبراز جوانب إنسانيته.
• غرس ثقافة المجتمع في شخصية الفرد.
• تنشئة الفرد على ضبط سلوكه، وإشباع حاجاته بطريقة تساير القيم الدينية والأعراف الاجتماعية حيث تعلمه كيفية كف دوافعه غير المرغوبة أو الحد منها.
• تعلم العقيدة والقيم والآداب الاجتماعية والأخلاقية وتكوين الاتجاهات المعترف بها داخل المجتمع وقيمه بصفة عامة، وذلك حتى يستطيع الفرد اختيار استجاباته للمثيرات في المواقف المختلفة التي يتعرض لها يومياً.
• تعليم الفرد أدواره الاجتماعية والتي يشغلها الأفراد باختلاف الجنس والسن، فدور المرأة مختلف عن دور الرجل ودور الطفل عن دور الرجل الناضج.
• غرس عوامل ضبط داخلية للسلوك وتلك التي يحتويها الضمير وتصبح جزءاً أساسياً، لذا فإن مكونات الضمير إذا كانت من الأنواع الإيجابية فإن هذا الضمير يوصف بأنه حي، وأفضل أسلوب لإقامة نسق الضمير في ذلك الطفل أن يكون الأبوين قدوة لأبنائهما حيث ينبغي ألا يأتي أحداهما أو كلاهما بنمط سلوكي مخالف للقيم الدينية والآداب الاجتماعية.
* دور المجتمع، الأسرة، المدرسة في التنشئة الاجتماعية
* دور المجتمع:
يتحدد دور المجتمع في بناء سلطته، وطريقة تعاملها مع الأفراد وكيف تنسق لتربية الأجيال الجديدة في إطار هذه السلطات، لكي تكون مستجيبة لأوامرها، منتهية بنواهيها، ولكن الفرد ليس الوحيد الذي يتكيف، فالمجتمعات تتكيف أيضاً، فهي تتغير وتتبدل بمفاهيمها وقيمها ومثلها العليا ومعتقداتها ومواقفها وطرائق معاملتها، ثم طرائق حياتها، ومع تبدل المجتمعات تتغير التربية وطرائقها وأهدافها.
* دور الأسرة:
لسيطرة أحد الوالدين أثر مباشر على نوع الدور الذي يملكه الطفل في حياته الراهنة والمقبلة فإذا كان الأب مسيطراً فإن ذلك ينحو بالذكور من الأطفال إلى تقمص دور الأب وبذلك يميلون في سلوكهم إلى النمط الذكري الرجولي، وإذا كانت الأم هي المسيطرة فإن ذلك يؤدي بالأطفال الذكور في الأغلب والأعم إلى السلوك العصابي بل والذهاني أحياناً، وعلى عكس ذلك وإلى حد ما بالنسبة لسلوك الإناث من الأطفال، والولد يقلد الأب لأن الأب هو النموذج الصالح كما يرتضيه له المجتمع، والبنت تقلد الأم لأن الأم هي النموذج الصالح كما يرتضي لها المجتمع، وعندما تتعارض سيطرة الأب مع سيطرة الأم، يواجه الطفل صراعا في اختيار الدور الذي يقلده، وقد ينحرف سلوكه على مسالك لا سوية، وخير نموذج للعلاقات الوالدية الصالحة للتنشئة الاجتماعية السوية هو الذي يشيع في جو الأسرة نوعاً من التكامل بين سلوك الأب وسلوك الأم بحيث ينتهي إلى تدعيم المناخ الديمقراطي المناسب لتنشئة أطفال الجيل المقبل.
* دور المدرسة:
تعد المدرسة الوكالة الاجتماعية الثانية، بعد الأسرة للقيام بوظيفة التنشئة الاجتماعية للأطفال والأجيال الشابة، حيث تقوم المدرسة بإعداد الأجيال الجديدة روحياً ومعرفياً وسلوكياً وبدنياً وأخلاقياً ومهنياً، وذلك من أجل أن تحقق للأفراد اكتساب عضوية الجماعة والمساهمة في نشاطات الحياة الاجتماعية المختلفة، وتعمل المدرسة اليوم على تحقيق عدد كبير من المهام التربوية، ومن بين هذه المهام التي تقوم بها يمكن أن نذكر على سبيل المثال وليس الحصر، جملة من الوظائف أبرزها: التربية الفنية والتربية البدنية.
*أساليب التنشئة الاجتماعية للوالدين وتأثيراتهما السلبية والايجابية على الأطفال:
تعدد أساليب التنشئة الاجتماعية المستخدمة من قبل الآباء والأمهات تجاه أطفالهم ومن المعروف أن هذه الأساليب لها تأثيراتها السلبية والايجابية على الجوانب الانفعالية والاجتماعية للأطفال وفيما يأتي أهم هذه الأساليب:
* المساندة العاطفية:
العلاقة الأسرية التي تمتاز بإقامة علاقات عاطفية تساعد على النمو السليم لشخصية الطفل ولكن التهديد بالحرمان من قبل الوالدين نحو أبنائهم يساعد على تنشئتهم تنشئة غير سليمة.
*أسلوب الضبط الوالدي:
ويقصد به قدرة الوالدين على التدخل في الوقت المناسب حتى لا يصل الطفل إلى درجة التسيب ويكون ذلك بالعقاب البسيط.
*نمط العداء لدى الوالدين:
إن الطريقة التي يتربى بها الطفل في سنواته الأولى والقائمة على المخاوف وانعدام الأمن تؤدي إلى تعرض الأطفال إلى الاضطرابات النفسية والتأخر في نواحي النمو المختلفة.
*الحماية الزائدة لدى الوالدين:
إن رعاية الطفل والاهتمام به من الأمور الضرورية التي يجب على الوالدين القيام بها ولكن لا أن يصل بها إلى درجة الحماية المفرطة، وتأخذ تلك الحماية الأبعاد الآتية: التعلق المكثف بالطفل، عدم إعطاء الطفل الحرية في استقلالية السلوك.
*تسلط الوالدين:
والمقصود من ذلك الأسلوب الذي يتبعه الوالدين في فرض الآداب والقواعد التي تتماشى مع مراحل عمر الطفل وذلك بالنهي والتوبيخ، ومن هذه الأسباب لجوء الآباء إلى التسلط: امتصاص الأب لمجموعة من القيم والمعايير الصارمة في طفولته مما يضطر إلى تطبيقها على أطفاله.
*المبحث الثاني:اكتساب السلوك والقيم المرغوب فيها
من السلوكيات والقيم التربوية التي يجب تنشئة الطفل عليها وترسيخها في نفوسهم لتصبح منهاج ونبراس لحياتهم:
* الإيمان بالله:
إن الأساس الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والإيمان به بلسان ساذج متيسر الفهم، وإن الحاجة للإيمان بالله موجودة في باطن كل إنسان بفطرته الطبيعية. فعندما يبدأ جهاز الإدراك عند الطفل بالنشاط والعمل، ويستيقظ حس التتبع فيه، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها فإن نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماما لتلقي الإيمان بخالق العالم، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعة في بناء الطفل. وللإيمان بالله أثرين مهمين: الأول: إنه يعمل على إحياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية، ويصب ركائز السعادة الواقعية للإنسان. الثاني: إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للإيمان. وقد بين الإمام(ع) قيمة الإيمان من خلال كثرة عبادته فقد كان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأفقههم وأكرمهم. فأتجه بعواطفه ومشاعره نحو الله إذ تفاعلت جميع ذاتياته بحب الله والخوف منه، فقد عمل كل ما يقربه إلى الله فكان كثير الصلاة والصوم والحج والصدقة وأفعال الخير، فكان(ع) في طليعة العارفين بالله وعظيم الخوف منه شديد الحذر من مخالفته حتى قال له بعض أصحابه: ما أعظم خوفك من ربك؟!! فقال(ع):"لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا. . .".
* الثبات على المبدأ:
الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية، فهو الذي يرفع معنوياتها، ويعزز قيمتها، ويحقق أهدافها وأمانيها. ولم تعرف البشرية في تاريخها المديد، أكمل وأفضل من المبادئ الإسلامية الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوأتها قمة الشرائع والمبادئ وهي الوحيدة التي تلاءم الفِطَرة السليمة وتؤلف بين القيم المادية والروحية، وتكفل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا. لذلك مجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المستمسكين بقيم الإيمان ومثله العليا:(إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ومن هؤلاء الثابتين على مبادئهم الرفيعة الامام الحسين بن علي(ع) فقد سما وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الأكرمون إلى أوج رفيع، تنحطّ دونه الهمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق، رغم حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال. وقف الحسين(ع) يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله وقتله، فصرخ في وجوههم صرخته المدوّية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستوراً حيّاً يقدسه الأباة والأحرار:(ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين، بين السِّلة والذّلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
ويؤكد الحسين(ع) ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة(واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد)،( إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً).
وما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحق، ليستردوا مجدهم الضائع، وعزهم السليب، وينقذوا أنفسهم من هوان هزائمهم الفاضحة والنكسات المتتالية، من خلال تنشئة وتوجيه أبنائهم نحو هذا الخلق الكريم والسلوك الأمثل في ثباتهم على مبادئهم والدفاع عنه.
* الحلم وكظم الغيظ:
قد يحسب السفهاء أن الحلم وكظم الغيظ من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكنّ العقلاء يرونها من سمات النبل، وسمو الخلق، ودواعي العزة والكرامة. فكلما عظم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالتهم وطيشهم، معتصماً بالحلم وكرم الإغضاء، وحسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار والثناء. وقد مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في محكم كتابه. فقال تعالى:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
كما قيل: وإن استقرأت سيرة الإمام الحسين(ع) تجد نمطا فريداً، ومثلاً عالياً، في دنيا السير والأخلاق فنجد الحلم من أسمى صفات أبي الشهداء(ع) ومن أبرز خصائصه فقد كان - فيما أجمع عليه الرواة - لا يقابل مسيئا بإساءته، ولا مذنبا بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم ببره ومعروفه، من ذلك ما قصه الراوي: "جنى غلام له جناية توجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي والكاظمين الغيظ قال: خلوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس؛ قال: قد عفوت عنك، قال: يا مولاي! والله يحب المحسنين؛ قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك".
*المصدر: مجلة الروضة الحسينية، العدد 126