printlogo


printlogo


ثورة فخ بين إخبار الرَّسُول (صلَّى الله عليه وآله) وتأييد الإمام مُوسَى الكَاظِم (عليه السَّلَام)

 
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على سيّدنا محمَّد وآله الطَّيِّيبين الطّاهرين واللَّعن الدَّائم على أعدائهم، ومبغضيهم وناكري حقِّهم، من الأوَّلين والآخرين أجمعين، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيام يوم الدِّين...
وبعد...
لمعت في سماء التَّأريخ الإسلامي وآفاقه أماكن وأحداث وشخصيات، ونزفت من قلب هذه الأمة وشرايينها دماءً طاهرة سقت شجرة الإيمان، وخطت فصول المجد والجهاد بأحرف مضيئة وبعناوين لامعة، ومن هذه الأماكن والأحداث والشخصيات والدماء أرض فخ ووقعتها الكبرى وقائدها العلوي الحسين بن عَلِيّ الخير (رضوان الله عليه) صاحب فخ، مع الكوكبة النيرة من طلائع آل أبي طالب، فكانت فخ حقا نجما في سماء التاريخ، امتدادا لواقعة طف كربلاء المقدسة، من أجل أن يعم العدل والمساواة بين أبناء الدين الإسلامي وتحرر النَّاس من الظّلم والاستبداد[1]، فحدثت ثورة فخ ضد الظّلم والجور الذي حلَّ بالأمَّة الإسلاميَّة إبان حكم بني العبَّاس، فكان لابد من تضحيات بخصوص هذا الشأن ولابد من أشخاص خلَّص يقومون بهذه التضحيات، فمن الذين ضحوا بالغالي والنّفيس هم آل بيت النّبوَّة الأطهار (عليهم السَّلَام)، فقاموا بالعديد من الثّورات سبقت ثورة واقعة فخ الأليمة، جميعها كانت امتدادًا لواقعة طف كربلاء؛ ثورة زيد الشَّهِيد بن عَلِيّ السَّجَّاد (عليهما السَّلَام)، ومنها أيضًا ثورات آل الحَسَن المُجْتَبَى (عليهم السَّلَام)؛ كثورة مُحَمَّد الملقَّب بـ(النَّفس الزَّكيَّة) وأخيه إبراهيم قتيل باخمرا[2]، ابناء عبد الله المَحض بن الحَسَن المُثَنَّى بن الإمام الحَسَن المُجْتَبَى بن الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهم السَّلَام)، وبعدها حدثت ثورة فخ بقيادة الثَّائر الحسني العلوي الحُسَين صاحب فخ (عليه رضوان الله)، وهي عظيمة في أحداثها وفجيعتها كمعركة الطَّف.
تعريف ثورة (فخ) وسبب تسميتها بـ(فخ): حدثت هذه الواقعة الأليمة ثورة فخ في زمن الإمام مُوسَى بن جَعْفَر الكَاظِم (عليهما الصَّلَاة والسَّلَام) في منطقة وادي فخ، وهو موقع قرب مكة المكرَّمة، على رأس فرسخ، وحدثت بين الحق المتمثّل بالعلويّين وأشياعهم، ومع الباطل المتمثّل ببني العبَّاس وكان آنذاك الحاكم هو موسى العباسي حفيد الدّوانيقي، في سنة 169هـ، أمَّا عن سبب تسميتها بهذا الاسم؛ وذلك لأنَّ معركة ثورة فخ حدثت قرب وادي فخ المذكور آنفًا، لذلك سميت باسمه[3].
المرجعيات الاجتماعية لقائد ثورة فخ:
اسمه ونسبه:
هو الشَّهيد الحُسَين بن عَلِيّ الخير أو (عَلِيّ العابد)، بن الحَسَن المُثَلَّث، بن الحَسَن المُثَنَّى، بن الإمام الحَسَن المُجْتَبَى السّبط، بن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهم السَّلَام)[4]، وكان أبوه السَّيِّد الطَّاهر عَلِيّ الخير، ويُكنَّى بـ(أبي الحسن) وكان كثير العبادة؛ وبـ(عليّ الخير أو بعليّ العابد)[5]، أما أمه فهي العلوَّية زينب بنت عبد الله المَحض أو(عبد الله الكامل)[6] بن الحَسَن المثنى بن الإمام الحَسن المُجْتَبَى بن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهم السَّلَام)، فكانت هذه المرأة الحسنيَّة (عليها السَّلَام) من النّساء العلويَّات الفاضلات المؤمنات الكريمات[7]، وكان يقال لها ولزوجها عَلِيّ الخير (عليهما السَّلَام): الزَّوج الصَّالح[8].
ممَّا روي في شخص الشهيد الحُسَين بن عَلِيّ الخير صاحب فخ (عليهما السَّلَام):
كان الحُسين بن عَلِيّ الخير (عليهما السَّلَام) صاحب فخ من أصحاب الإمام أبي عبد الله جعفر بن مُحَمَّد الصَّادق (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام)[9]، وكان جوادًا يتّصف بكلّ معاني الزّهد ومكارم الأخلاق، كريمًا، لا يرد سائلًا عنه، يواسي الفقراء وينفق عليهم ويؤثرهم على نفسه، وإذا لم يجد شيئًا اقترض لهم وينفق ويقول: قال الله عزَّ وجل[10]: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[11]، وعندما استشهد الحُسين صاحب فخ (رضوان الله عليه)، وقطعوا رأسه الشَّريف مع من قُطعت رؤوسهم من أنصاره وآل بيته (عليهم السَّلَام) يوم واقعة فخ، جاء الجند بالرؤوس إلى موسى بن عيسى العباسي وفيها رأس الحُسَين صاحب فخ بن عَلِيّ الخير (رضوان الله عليهما)، وعنده جماعة من ولد الحَسَن والحُسَين (عليهم السَّلَام)، فلم يسأل أحدا منهم إلَّا مُوسَى بن جعفر الكَاظِم (عليهما السَّلَام) قال له: هذا رأس الحُسَين؟ فقال (عليه السَّلَام): (نعم، إِنَّا لله وإِنَّا إليه راجعون، مَضَى والله مُسلمًا صالحًا صوامًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المُنكر، ما كان في أهل بيته مثله)[12]، ولقد كان وقعها عظيمًا على نفسه، ونتائجها ومردوداتها السياسية كبيرة على شخص الامام الكاظِم (عليه السَّلَام)، وكيان الأُمّة الإسلاميَّة ومن نجا من آل أبي طالب من مذابح بنى العباس المروعة، فتحملها الامام بقلبه الكبير وصبره المديد وعزمه الذي لا يلين [13].
من أسباب حدوثها:
 بعد سيطرة العباسيين على الحكم وغصبهم لحقوق العلويِّين (عليهم السلام)، عانت الأسرة العلويّة الخوف والألم والجور والارهاب، فقام العلويّون بثورة ضد الظّلم وانتهاك تعاليم الدِّين الإسلامي المُحَمَّدي، وبسبب سياسة الحكَّام بني العبَّاس الجائرة بحق البيت العلوي وأشياعهم، قام موسى العبَّاسي –لعنه الله- بالتّحامل على الطَّالبيّين العلويّين، وأخافهم خوفاً شديداً، وألح في طلبهم (عليهم السَّلَام)، وقطع أرزاقهم وأعطياتهم، وكتب إلى الآفاق بطلبهم، والذي فجّر الثَّورة هو بعد أن اللَّعين عدو آل بيت مُحَمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، موسى العباسي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي، فاستخلف عليها رجلًا من ولد عمر بن الخطّاب يعرف بعبد العزيز بن عبد الله، فحمل على الطالبيين وأساء إليهم، وافرط في التّحامل عليهم، وطالبهم بالعرض كل يوم، وكانوا يعرضون في المقصورة، واخذ كل واحد منهم بكفالة قرينه ونسيبه[14].
فبعدما تقدَّم حدثت الثورة وكان قد تقلَّد الحُسَين صاحب فخ (رضوان الله عليه)، قيادة معركة ثورة فخ بعد أن اجتمع العلويون واختاروه (رضوان الله عليه) قائدًا للثورة العلويَّة الفخيَّة، في اليوم الثَّامن من ذي الحُجَّة سنة 169ه، بعد أن اكتسبت الثَّورة الفخيَّة المباركة ضد الباطل تأييدها ومشروعيّتها من الإمام مُوسَى بن جَعْفَر الكاظم (عليهما السَّلَام)، فأذن للحُسَين صاحب فخ (رضوان الله عليه)، بعد أن رآه (عليه السَّلَام) مصرًا في قراره في المضي، ولم يكن صبره يحتمل ما وقع على أهل هذا البيت (عليهم السَّلَام) من العنت والظّلم والاضطهاد، فنعاه الإمام مُوسَى الكَاظِم (عليه السَّلَام) وقال له قول المودّع الذي لا يرجو لقاءه أبدًا حين رآه عازمًا على المسير إلى مكة[15]، فقال (عليه السَّلَام): (يا بن عمّ، إنّك مقتول فأجدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق، يظهرون إيماناً، ويضمرون نفاقاً وشركاً، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعند الله عزّ وجلّ أحتسبكم من عُصبة)[16]، فأصبحت الثَّورة مشروعة عن طريق هذه الرواية الواردة عن الإمام مُوسَى الكَاظم (عليه السَّلَام)، في حقّ ثورة فخ، لأنَّ بني العبَّاس قوم فسَّاق خرجوا عن الدّين[17]، فساند الشهيد السَّيِّد الحُسَين صاحب فخ، مجموعة من العلوِّيِّين من أبناء الإمامين الحَسَن والحُسَين (عليهما السَّلَام)، فكان منهم أخواله من أبناء عبد الله المحض بن الحَسَن المُثَنَّى (عليهم السَّلَام)، الَّذين ساندوه وشاركوه في الثورة والوقوف بوجه الطّغاة، في زمن الظالم العبَّاسي موسى (الهادي)[18]، فبعد مبايعة الحُسين صاحب فخ (رضوان الله عليه) ليكون قائدًا للثورة، سار ومن معه إلى مكة، فبايعه الناس في مكَّة أيضًا، بعد أن خطب بهم على منبر جدّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فوصل خبر الثورة الحكومة العباسيَّة، وهذا كان في موسم الحج، فسار إليه سليمان بن أبي جعفر مع جيش لملاقاة الحُسين صاحب فخ (رضوان الله عليه)، فالتقى الجيشان في المدينة قرب وادي فخ وحدثت معركة كبيرة غير متكافئة من حيث العُدَّة والعدد[19]، فقاتل أصحاب الحُسَين الفخي (رضوان الله عليه) قتال الأبطال قتالًا نابعًا من قوّة عقيدتهم وإيمانهم، فأعطى العبّاسيون إلى الشَّهيد الحُسين الفخي (عليه السَّلَام) الأمان وأرادوا أن يخدعوه لكنه رفض ذلك، فردّ عليهم قائلًا: (ما أريد الأمان)[20]، وظل يحمل عليهم ويقاتلهم حتَّى شهادته (عليه السَّلَام)[21].
شهادة الحُسَين صاحب فخ (عليه السَّلَام):
أمَّا استشهاد الشبل الحسني العلويّ، والبطل والقائد الفخي الحُسَين صاحب (رضوان الله عليه)، في واقعة فخ الأليمة التي راح ضحيتها كوكبة طاهرة من البيت العلوي والمحمَّدي، فاستُشهِد على يد اللّعين حمَّاد التّركي بعد أن رماه بسهم، واستشهد معه سُليمان بن عبد الله المحض بن الحَسَن المُثَنَّى وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحَسَن (عليهم السَّلَام)[22]، ولقد استشهد في يوم التروية في اليوم الثَّامن من ذي الحجة في سنة مائة وتسع وستين للهجرة، مع ستمائة نفر من السَّادات وآل أبي طالب ومواليهم، والى هؤلاء أشار دعبل بقوله في عجز أحد أبيات تائيته المشهورة: (وأخرى بفخ نالها صلوات)[23].
تشابه الأحداث بين واقعة الطّف وواقعة فخ:
من وقف على مأساة واقعة ثورة فخ وفجيعتها، يجدها أنّها تكرار لواقعة ثورة طف كربلاء وصدى لصوت الإمام الحُسَين السّبط الشَّهِيد (عليه السَّلَام) الهادف إلى الحقِّ، فواقعة فخ التي ضارعت مأساة طف كربلاء في آلامها وشجونها، وقد تحدَّث الإِمَام الجَوَاد بن عَلِيّ الرِّضَا (عليهما السَّلَام) عن مدى أثرها البالغ على أهل البيت (عليهم السَّلَام) بقوله: (لم يكن لنا بعد الطَّف مصرع أعظم من فخ)، فقد حملت فيها رؤوس العلويّين (عليهم السَّلَام) وتركت جثثهم في العراء، وسيق الأسارى من بلد إلى بلد، وقد قيّدوا بالحبال والسَّلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلوا على موسى العبّاسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرًا وصلبوا على باب الجسر ببغداد؛ مثلما حدث في يوم طف كربلاء عندما أُستشهِد الإمام الحُسَين وأنصاره (عليهم السَّلَام)، وسُبي عياله وأهل بيته (عليهم السَّلَام) من الأطفال والنّساء وأخذوا أُسارى، وبقيت أجساد الشّهداء (عليهم السَّلَام) في العراء ثلاثة أيَّام مقطوعة الرّؤوس، وكان قلب السَّيِّدة زينب بنت عبد الله المحض بن الحسن المُثنَّى (عليهم السَّلَام) مُليءَ حُزًنًا وألمًا ولوعة على فقد ولدها الحُسَين صاحب فخ وقبله أبيها عبدالله المحض وزوجها عَلِيّ الخير وأخوتها (عليهم السَّلَام) الذي قتلهم الدّوانيقي في سجن الهاشميَّة، كقلب جدتها السَّيِّدة زينب الكُبرى بنت الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهما السَّلَام) على فقد أخيها الإمام الحُسين وأنصاره (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام)، وكان من أهداف واقعة فخ كأهداف واقعة الطَّف، وهو من أجل استمرار المبادئ الإسلاميَّة والعمل بها؛ كعدم القبول بالباطل والرّضوخ له، والتّحررّ من الظّلم والاضطهاد ومن أجل الإصلاح الاجتماعي، وأن يعم العدل والمساواة بين طبقات الرَّعيَّة وغيرها من الأهداف الإصلاحيَّة الأخرى لا لأهداف دنيوية شخصيَّة، فكانت واقعة فخ مرآة لواقعة طف كربلاء في تشابه الأحداث والأهداف، وكذلك من الأحداث الأخرى المتشابهة بين الواقعتين هو أن العمري أحرق دار الحسين صاحب فخ ودور بني هاشم ولعمري أقتدى بمن وقف على باب دار علي وفاطمة وأضرم النَّار في الباب وأراد أن يحرق عَلِيًّا وفَاطِمَة والحَسَن والحُسَين وزينب وأم كلثوم (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام أجمعين) بالنَّار، وهذا أيضًا كان قد حدث في يوم الطَّف عندما حرق جيش يزيد –لعنهم الله جميعًا مع من كان يقودهم- خيام العلويّين (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام) وأنصارهم[24]، وغيرها من الأحدث المتشابهة بين الوقعتين.
ممَّا روي في إخبار النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) بواقعة فخ وفضل شُهدائها:
كانت هذه الواقعة (واقعة فخ) عظيمة على نفس رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وكان قد أُنبئ عنهما وبكى ألمًا ولوعة لما يجرى على أهل بيته فيهما، ففجع (صلَّى الله عليه وآله) فيها كما فجع قبلها في طف كربلاء، فروي عن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ البَاقِر (عليهم السَّلَام)، قال: (مرَّ النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بفخ فنزل فصلَّى ركعة، فلمَّا صلَّى الثَّانية بكى وهو في الصَّلَاة، فلمَّا رأى النَّاس النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يبكي بكوا، فلمَّا انصرف (صلَّى الله عليه وآله) قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله، قال (صلَّى الله عليه وآله): نزل عَلَيّ جبريل لما صلَّيت الرّكعة الأولى فقال: يا مُحَمَّد، إنَّ رجلّا من ولدك يقتل في هذا المكان، وأجر الشَّهِيد معه أجر شَهِيدَين)[25]، فنلاحظ عن طريق هذه الرّواية أن لشُهداء فخ فضل عظيم من الله (عزَّ وجلّ).
فإلى هذا المقام نختم هذا البحث المختصر عن فاجعة فخ الأليمة، وأن الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلَّى الله تعالى على سيِّدنَا وشفيعنا وحبيب قلوبنا، مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين، واللَّعن الدَّائِم على أعدائِهم ومبغضيهم وناكرِي حقِّهم، من الأوَّلين والآخرين، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيامِ يوم الدِّين...
المصدر: موقع مؤسسة علوم نهج البلاغة