اتّخذ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) موقفًا صارمًا من ظاهرة الغلوّ والمغالين، قد لا نجد ما يناظره في مسائل أخرى، فإنّهم واجهوا ذلك بكلّ حزم وقوّة، وقد تنوّعت أساليبهم في ذلك وتصدّيهم لهذه المشكلة الخطيرة التي واجهت الفكر الديني عموماً، ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام) خصوصًا فتنوعت أساليبهم على جانبين الجانب النظري والجانب العملي.
أولًا: الجانب النظري:
حارب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هذه الفكرة وأبطلوا ما يستدل به المغالون، وبيَّنوا فساد هذه العقيدة، وكما يلي:
1- التحذير من الغلو:
قال الإمام علي (عليه السلام): (يهلك فيَّ اثنان، ولا ذنب لي: محب مفرط، ومبغض مفرط)(1). وعنه (عليه السلام): (يهلك في اثنان ولا ذنب لي: محب غال، ومفرط قال)(2).
وعنه (عليه السلام): (إياكم والغلو فينا، قولوا: إنا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم)(3).
وقال(عليه السلام): (لا تتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني بريء من الغالين)(4).
2- لعنهم والبراءة منهم:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبدًا ولا تنصر منهم أحدًا)(5)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (لعن الله الغلاة، ألا كانوا مجوسًا، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا حرورية)(6).
3- الغلاة شر خلق الله:
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله، والله إن الغلاة لشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا)(7).
4- الغلاة وضاعون:
عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (…… إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله تعالى)(8). وعن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، ذكر الغلاة، فقال: (إنَّ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ هَذَا الأَمْر لَيَكْذِبُ حَتَّى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْتَاجُ إِلَى كَذِبِه)(9).
5- براءتهم من الإسلام:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (إن أبي حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلوات الله عليهم، قال: صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الإسلام : الغلاة والقدرية)(10).
6- إنهم كفار:
عن أبي هاشم الجعفري(11) قال: سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن الغلاة والمفوضة، فقال: الغلاة كفار……)(12).
7- عقيدتهم في العبادات:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله عز وجل أبدا)(13).
8- البراءة من رموز الغلاة:
تضافرت النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في ذمّ رموز الغلاة والمغالين والبراءة منهم للوقوف أمام تأثير هذه المقولات الفاسدة، نشير إلى بعضها:
قال الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) يوماً لأصحابه: (لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إن المغيرة كذب على أبي (عليه السلام) فسلبه الله الإيمان، وإن قومًا كذبوا عليَّ مالهم أذاقهم الله حرَّ الحديد)(14).
وعنه (عليه السلام) قال: (إن بنانًا والسريّ وبزيعًا لعنهم الله تراءى لهم الشيطان في أحسن ما يكون صورة آدمي من قرنه إلى سرته)(15).
وعن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: (كان بنان يكذب على علي بن الحسين (عليه السلام)، فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر (الإمام الباقر) (عليه السلام)، فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان محمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى (الكاظم) (عليه السلام)، فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد الله (الصادق)(عليه السلام)، فأذاقه الله حرَّ الحديد، والذي يكذب عليَّ محمد بن فرات)(16).
ثانيًا: الجانب العملي:
وسنرى في هذا الجانب ما اتخذه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وبحزم شديد ضد هذه العقيدة الهدّامة وأتباعها:
1- العقوبة الجسدية:
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله وأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَتَاه سَبْعُونَ رَجُلاً مِنَ الزُّطِّ (هم جنس من السودان والهنود) فَسَلَّمُوا عَلَيْه وكَلَّمُوه بِلِسَانِهِمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ كَمَا قُلْتُمْ، أَنَا عَبْدُ اللهِ مَخْلُوقٌ، فَأَبَوْا عَلَيْه وقَالُوا أَنْتَ هُوَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا وتَرْجِعُوا عَمَّا قُلْتُمْ فِيَّ وتَتُوبُوا إِلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ لأَقْتُلَنَّكُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا ويَتُوبُوا، فَأَمَرَ أَنْ تُحْفَرَ لَهُمْ آبَارٌ فَحُفِرَتْ، ثُمَّ خَرَقَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ خَمَّرَ رُؤُوسَهَا، ثُمَّ أُلْهِبَتِ النَّارُ فِي بِئْرٍ مِنْهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَدَخَلَ الدُّخَانُ عَلَيْهِمْ فِيهَا فَمَاتُوا(17).
ومثله إن عليًا (عليه السلام) أتاه قنبر فقال له: إن عشرة نفر بالباب يزعمون أنك ربهم، قال: أدخلهم، قال: فدخلوا عليه. فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: نقول: إنك ربنا وأنت الذي خلقتنا، وأنت الذي ترزقنا، فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا وأعادوا عليه… ثم ساق الحديث إلى أن قذفهم في النار ثم قال علي (عليه السلام):
إني إذا أبصرت شيئًا منكرًا * أوقدتُ ناري ودعوتُ قنبرا(18).
2- إباحة دمهم:
روى علي بن حديد المدائني قال: (سمعت من سأل أبا الحسن الأول (الإمام موسى الكاظم) (عليه السلام) فقال: إني سمعت محمد بن بشير ـ وهو من رموز الغلاة ـ يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله تعالى. قال: فقال: لعنه الله ثلاثًا أذاقه الله حر الحديد قتله الله أخبث ما يكون من قتلة. فقلت له: جعلت فداك إذا أنا سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه مباح كما أبيح دم الساب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وللإمام (عليه السلام)؟ فقال: نعم حل والله، حل والله دمه وإباحة لك ولمن سمع ذلك منه، قلت: أوليس ذلك بساب لك؟ فقال: هذا ساب لله وساب لرسول الله وساب لآبائي وسابي، وأيُّ سب ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول؟ فقلت: أرأيت إذا أتاني لم أخف أن أغمز بذلك بريئًا ثم لم أفعل ولم أقتله ما عليَّ من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافًا مضاعفة من غير أن ينتقص من وزره شيء، أما علمت أن أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله بظهر الغيب ورد عن الله وعن رسوله(صلى الله عليه وآله))(19).
3- تحريم التعاطف معهم:
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين جاءه هلاك أحد المغالين: (…. ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم)(20).
4- وجوب مقاطعتهم:
عن الإمام الرضا(عليه السلام): (الغلاة كفار، والمفوضة(21) مشركون من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله(صلى الله عليه وآله) وولايتنا أهل البيت(22).
ومثله عن الإمام الرضا حيث جاء ذكر الغلاة عنده قال: (لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم وابرأوا منهم برئ الله منهم)(23)، وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)قال: (أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان أن يجلس إلى غال فيستمع إلى حديثه ويصدقه على قوله، إن أبي حدثني، عن أبيه، عن جده (عليه السلام) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الاسلام : الغلاة والقدرية)(24).
ومثله قال الصادق (عليه السلام): (احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم، فإن الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله، والله إن الغلاة شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا)(25).
هذه بعض الأحاديث التي وردت في حق الغلاة والموقف الذي وقفه أهل البيت (عليهم السلام) في إبطال فكرهم وكشف كذبهم وكشفهم للمسلمين وما يجب أن يتخذوه في شأنهم.
موقف أعلام الشيعة من الغلو والغلاة:
في نفس المسار والنهج الذي سار عليه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، جاءت كلمات وفتاوى أعلام الشيعة أيضًا، حيث حكموا بتكفيرهم والبراءة منهم، وإليك بعضها:
1- الشيخ المفيد، قال: (والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمّة من ذرّيته (عليهم السلام) إلى الألوهيّة والنبوّة، ووصفوهم من الفضل في الدِّين والدُّنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد، وهم ضلاّل كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمّة (عليهم السلام) عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام)(26).
2- الشيخ الصدوق، قال: (اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنّهم كفّار بالله تعالى، وأنهّم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والقدريّة والحروريّة ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة، وأنّه ما صغّر الله جلّ جلاله تصغيرهم شيء)(27).
3- العلاّمة المجلسي قال: (اعلم أن الغلو في النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) إنّما يكون بالقول بألوهيّتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة أو في الخلق أو الرزق، أو أنّ الله تعالى حلَّ فيهم أو اتّحد بهم، أو أنهّم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمّة (عليهم السلام) أنهّم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تُغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي والقول بكلٍّ منها إلحاد وكفر وخروج عن الدِّين، كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة والآيات والأخبار السالفة وغيرها. قد عرفت أنّ الأئمّة (عليهم السلام) تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم، وإن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك، فهي إمّا مؤوّلة أو هي من مفتريات الغلاة)(28).
4- الشيخ الأنصاري، قال: (وأمّا الغلاة، فلا إشكال في كفرهم؛ بناءً على تفسيرهم بمن يعتقد ربوبيّة أمير المؤمنين(عليه السلام) أو أحد الأئمة (عليهم السلام))(29).
5- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(30) قال في معرض حديثه عن الغلاة ومقالاتهـم: (وأمّا الشيعة الإماميّة وأئمّتهم (عليهم السلام) فيبرؤون من تلك الفرق براءة التحريم… ويبرؤون من تلك المقالات ويعدّونها من أشنع الكفر والضلالات، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض وتنزيه الخالق عن كلّ مشابهة للمخلوق)(31).
6- الشيخ المظفر(32) قال: (لا نعتقد في أئمتنا (عليهم السلام) ما يعتقده الغلاة والحلوليين (كَبُرت كَلِمةً تَخرُجُ مِن أفوَاهِهِم) بل عقيدتنا الخاصة أنّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنّما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفّة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحدٌ من البشر فيما اختصوا به)(33).
7- السيد الخوئي قال: (الغلاة على طوائف فمنهم من يعتقد الربوبيّة لأمير المؤمنين أو أحد الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام)، فيعتقد بأنّه الربّ الجليل وأنّه الإله المجسّم الذي نزل إلى الأرض، وهذه النسبة لو صحّت وثبت اعتقادهم بذلك، فلا إشكال في نجاستهم وكفرهم، لأنّه إنكار لألوهيّته سبحانه؛ لبداهة أنّه لا فرق في إنكارها بين دعوى ثبوتها لزيد أو للأصنام، وبين دعوى ثبوتها لأمير المؤمنين (عليه السلام) لاشتراكهما في إنكار ألوهيّته تعالى، وهو من أحد الأسباب الموجبة للكفر)(34).
نكتفي بهذه الشهادات من كبار الطائفة الشيعية لما فيه تمام الغرض.
والخلاصة:
فإن أهل البيت (عليهم السلام) وعلماء الإمامية كان موقفهم واضحًا وصريحًا من البراءة من الغلاة بكل صنوفهم وتوجهاتهم، وأنهم كفار مباح دمهم، وحذروا المسلمين عمومًا وأتباعهم خصوصًا من الانجرار وراء أفكارهم ومعتقداتهم.
المصدر: موقع ینابیع