printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الأول
ماهية علم الكلام الإسلامي المعاصر
يتراءى للبعض ممّن لا معرفة له بهذا العلم ـ عند أوّل ارتباط بعنوان «علم الكلام» ـ أنّ المقصود من «الكلام» هنا: «التحدّث»، و«الحوار»، وأنّ «علم الكلام» هو العلم الذي يتناول تعليم «إلقاء الكلمات»، وفنّ «الخطابة»! والحقيقة أنّ هذا العلم لا يمتّ إلى شيء من ذلك بأيّ صلة، رغم أنّه يستفيد من «الخطابة» لتحقيق أهدافه. من هنا، تتجلّى أهمّيّة الوقوف على تعريف دقيق لعلم الكلام، ومعرفة موضوعه، ومنهجه، وأهدافه، ومسائله، والذي هو بمثابة خارطة طريق تدلّنا على النهج الصحيح، وتقودنا نحو الهدف. وعليه: فإنّ البحث عن ماهيّة علم الكلام مقدّم على سائر الأبحاث الأُخرى.


يمكن تصنيف «علم الكلام الإسلاميّ» ضمن مجموعة «الدراسات الدينيّة»، وهو حقل معرفيّ حظي باهتمام شديد في تاريخ معرفة الأديان. لقد اشتغل المتكلّمون ـ على مدى العصور ـ في إثبات العقائد الدينيّة، والردّ على شبهات المخالفين والمعاندين، حتّى سمّي هذا العلم ﺑ «الفقه الأكبر» نظراً لعلوّ مكانته، كما عمد الكثير من الفقهاء إلى بيان المعارف العقائديّة، وتأليف الكتب للدفاع عنها، بالتزامن مع اشتغالهم ببحوث الفقه والأصول.
*1/1. التعريف بالدراسات الدينيّة ومجالاتها:
يشتمل حقل «الدراسات الدينيّة» على عدد من الفروع العلميّة المتنوّعة التي تدرس بمناهج مختلفة أبعاداً ومجالات متعدّدة من الدين. وبملاحظة أنّ الأديان السماويّة ـ وعلى رأسها الإسلام ـ تنطوي على جوانب عقائديّة وفقهيّة وحقوقيّة وفرديّة واجتماعيّة وتربويّة وسياسيّة وما إلى ذلك، يمكن تصنيف العلوم المنضوية تحت مسمّى الدراسات الدينيّة ضمن تصنيفات متنوّعة. فعلى أساس أصول التديّن، ومضامينه، وأثره، وماهيّته، والأبحاث المقارنة، تنشعب أبحاث الدراسات الدينيّة إلى خمسة فروع:
1. الأسس الدينيّة في فلسفة الدين.
2. المضامين الدينيّة في علم الكلام وعلم الفقه وعلم الأخلاق.
3. أثر الدين في علم الإجتماع الدينيّ، وعلم نفس الأديان، والأنثروبولوجيا الدينيّة (علم الإنسان)، والميثولوجيا الدينيّة (علم الأساطير).
4. حقيقة الدين والتديّن في فينومينولوجيا الدين (علم الظواهر).
5. الأبحاث المقارنة في علم الأديان المقارن، وتاريخ الأديان.
هذا، وتبحث بعض أفرع الدراسات الدينيّة (مثل: فلسفة الدين، وعلم الكلام) صدق القضايا أو كذبها، فيما يكتفي البعض الآخر منها (مثل: تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، وفينومينولوجيا الدين، وعلم الاجتماع الدينيّ، وعلم نفس الأديان) على وصفها، دون الاهتمام بصدق القضايا الدينيّة أو كذبها.
*1/2. تعاريف علم الكلام الإسلاميّ:
بعد أن تبيّن تعريف «الدراسات الدينيّة»، والأفرع المعرفيّة التي تناولتها، نتوجّه الآن إلى تعريف علم الكلام الإسلاميّ باعتباره أحد فروع هذه الدراسات. لقد تطرّق عدد من العلماء المسلمين إلى تعريف هذا العلم بعبارات شتّى؛ نشير إلى بعض منها فيما يلي:
قال الفارابيّ (339ﻫ) في تعريف علم الكلام:
«صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف ما خالفها بالأقاويل».
وقال صاحب «المواقف» القاضي عضدالدين الإيجيّ ( 756ﻫ):
«علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة، بإيراد الحجج، ودفع الشبه».
وأشار سعد الدين التفتازانيّ (793ﻫ) في تعريفه لهذا العلم بالقول:
«الكلام هو: العلم بالعقائد الدينيّة عن الأدلّة اليقينيّة».
وأورد عبدالرحمن بن خلدون (808ﻫ) قوله:
«هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة، بالأدلّة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنّة. وسرّ هذه العقائد الإيمانيّة هو التوحيد».
وقال المحقّق اللاهيجيّ ـ بعد إشكاله على تعاريف غيره من المتكلّمين ـ:
«الكلام صناعة يُقتدر بها على إثبات العقائد».
أمّا التعريف المختار ـ وهو التعريف الشاملُ الملاحِظُ للأهداف، ومهامّ المتكلّمين ومنهج علم الكلام ـ فيمكن أن يُقال فيه:
هو: علم وفنّ ينتمي للدراسات الدينيّة، تُستنبط وتُنظَّم وتُبيَّن به المعارف والمفاهيم العقائديّة، من خلال الاستعانة بالنصوص الإسلاميّة، ويُستدلّ به على إثبات تلك المعارف وتبريرها، باتّباع مختلف المناهج والمقاربات الدينيّة وغير الدينيّة، ويُرَدّ به على شُبُهات المخالفين ومناقشاتهم العقائديّة.
وكما هو ملاحظ، فإنّ هذا التعريف لم يُشِر إلى «موضوع العلم»؛ لأنّ علم الكلام لا موضوع له، وفي المقابل: ركّز التعريف على غاية علم الكلام ومنهجه.
ونستنتج ممّا تقدّم:
أوّلاً: يُصنَّف علم الكلام على أنّه علم وفنّ ينطوي على جانب نظريّ تعليميّ، وآخر تطبيقيّ مهاريّ، يحافظ من خلاله المتكلّمون على سلامة عقائد العوامّ والخواصّ من الناس، كما يسهر الحَرَس ورجال الشرطة على أمن المجتمع.
ثانياً: علم الكلام فرع علميّ ينضوي تحت مظلّة الدراسات الدينيّة.
ثالثاً: طبيعة قضايا هذا العلم وأبحاثه تنتمي إلى المفاهيم والمعارف العقائديّة.
رابعاً: تتحدّد أهداف علم الكلام ومهامّ المتكلّمين فيما يلي:
1. الاستنباط.
2. التنظيم.
3. بيان المعارف والمفاهيم العقائديّة.
4. إثبات القضايا العقائديّة، وعقلنتها.
5. حماية التعاليم الدينيّة، ودرء الشبهات عنها.
خامساً: تُستخدم في علم الكلام شتّى المناهج الدينيّة وغير الدينيّة؛ مثل: المنهج العقليّ، والنقليّ، والتجريبيّ، والوجدانيّ، علاوةً على ما يُعتمد عليه في هذا العلم من مقاربات استدلاليّة، ووصفيّة، وتحليليّة، وتفسيريّة.
وتتلخّص أبرز قضايا علم الكلام ومباحثه في البحث عن: إثبات وجود الله تعالى، والصفات الإلهيّة، وإثبات التوحيد الإلهيّ، وقضايا تتعلّق بالأفعال الإلهيّة؛ مثل: حدوث العالم أو قِدَمه، وحدوث القرآن أو قِدَمه، والقضاء والقدر العلميّين والعينيّين لله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ، والجبر والاختيار، وبحث الآلام والشرور، والهداية والإضلال، الأعواض والآجال والأرزاق، والعدل الإلهيّ، وضرورة إرسال الرسل، وضرورة الإمامة والخلافة، ومباحث المعاد والحياة الأخرويّة، وبعض القواعد الكلاميّة؛ مثل: قاعدة الحسن والقبح العقليّين، وقاعدة اللطف، وقاعدة الأصلح، وغيرها من الأبحاث الأُخرى.
 
*1/3. ماهيّة علم الكلام الجديد:
استُخدم مصطلح «الكلام الجديد» في الأوساط العلميّة الإسلاميّة لأوّل مرّة من قِبَل الكاتب الهنديّ سيّد أحمد خان؛ حيث قال في خطاب له عام 1286ﻫ:
«إنّنا نحتاج اليوم إلى علم كلام جديد، نستعين به على إبطال التعاليم الجديدة، أو إثبات مطابقتها لمراتب الإيمان في الإسلام».
وبعد ذلك، جرى استخدام هذا المصطلح في كتابات العالم الهنديّ شبلي النعمانيّ (1332ﻫ)، وكان العلامة الشهيد مرتضى المطهّريّ (1399ﻫ) أوّل من تطرّق في إيران إلى ماهيّة الكلام الجديد، وضرورة البحث فيه. والمهمّ هنا أن نقف على المقصود من «الكلام الجديد»، ومفردة «التجديد» في هذا التعبير؛ فهل إنّ صفة «الجديد» هذه نعت للعلم، أم لمسائل العلم؟
يمكن أن نُحصي في المقام اثني عشر نظريّة؛ لكنّنا سنكتفي في ما يلي باستعراض نظريّتين أساسيّتين منها:
*1/3/1. نظريّة النسخ:
تبتني نظريّة نسخ الكلام الجديد للكلام القديم على رؤية لا تؤمن بأيّ علاقة تجمع الكلام الجديد بالقديم غير «الاشتراك اللفظيّ» في العنوان؛ حيث يرى أصحاب هذه النظريّة أنّ اختلافاً جوهريّاً يفصل بينهما، فما لبث الكلام الجديد بالظهور حتّى نُسخ الكلام القديم واضمحلّ. وما ذلك إلا بسبب ما طرأ في العصر الراهن على البيئة الفكريّة العامّة من تقلّبات وتبدّلات، وانهيار الجزميّة العلميّة أو الفلسفيّة، حتّى بات «إثبات العقائد الحقّة» الذي كان هدفاً للكلام التقليديّ ـ يوماً ما ـ في عِداد المستحيلات. وفي كلمة واحدة: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنّ الساحة الفكريّة المعاصرة تحكمها اليوم تساؤلات ومطارحات جديدة، وتسودها مناهج ومبادئ ومناخات مختلفة، تتطلّب أساليب جديدة في الحديث عن «الله»، و«النبوّة»، و«الإنسان»، و«المعاد»، و«الوحي».
ولعلّ أبرز ما تعاني منه هذه الرؤية: معاداتها للموروث التقليديّ، وانبهارها بحركة التطوّر في الغرب، وقراءتها الخاصّة بها فيما يتعلّق ﺑ «الوحي» و«الكلام»، تأثّراً بنظريّة النسبيّة الجديدة. إضافةً إلى أنّها ـ في خضمّ هذا البحر اللجّيّ من الآراء الغربيّة المتلاطمة ـ لم تحدّد بعد انتماءها في المنهج والنظريّة النسبيّة؛ فهل تؤمن بمنهج شلايرماخر (1834م) في الكلام الجديد؟ أم أنّها تنتمي إلى مقاربة ألستون (2009م)؟ أم أنّها تتوافق مع رؤى أخرى؟ فلا ريب في أنّ أيّاً من هذه الآراء والانتماءات الفكريّة تترك آثاراً بالغة الأهمّيّة على صورة «الكلام الجديد» المزمع تعريفه.
*1/3/2. نظريّة التكامل:
ذهب أصحاب هذه النظريّة إلى أنّ صفة «الجديد» نعت متعلّق بالشبهات والأساليب الكلاميّة، نافين الاختلاف الجوهريّ المدّعى بين الكلام الجديد والقديم، فالكلام الجديد عندهم ليس إلّا نموذجاً متكاملاً للكلام القديم، واستمراراً له. ومن هنا، قال بعض روّاد هذه الرؤية:
«علم الكلام الجديد استمرار للقديم، وليس بينهما اختلاف جوهريّ. ويمكن رصد التجديد في الكلام عند أمور ثلاثة؛ أحدها: أنّ الردّ على الشبهات هو أحد أهمّ مهامّ علم الكلام، وطالما أنّ الشبهات متجدّدة، فالكلام يتجدّد كذلك. فلا ينبغي الاعتقاد بإمكان مجابهة الشبهات بالأساليب والأسلحة القديمة على الدوام؛ فإنّنا بحاجة ـ أحياناً ـ إلى أسلحة جديدة. ومن هنا، يحتاج المتكلّم إلى معرفة المسائل الحديثة. وبالتالي: يتّضح أنّ علم الكلام يتغذّى وينمو عبر المعارف الجديدة، مثلما ينمو بالمسائل الجديدة كذلك».
أمّا التفسير السائد والمتداول عن صفة «الجدة» في «الكلام الجديد» فهو عدّها نعتاً للمسائل والقضايا الكلاميّة؛ بما يعني أنّ الكلام القديم تناول ـ في الأعمّ الأغلب ـ القضايا المتعلّقة بالإلهيّات والمعاد؛ بيد أنّه اليوم يلج مدارات بحثيّة أكثر اتساعاً، فيتناول أبحاثاً مرتبطة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وعلم الأديان، وغير ذلك.
*1/3/3. النظريّة المختارة:
الحقّ أنّنا إذا انتهينا إلى اضطلاع «علم الكلام» ببيان المعتقدات الدينيّة وإثباتها والدفاع عنها، فلا محيص من عدّ «الكلام الجديد» استمراراً للكلام التقليديّ؛ وهو بذلك ليس مشابهاً لحال الفيزياء القديمة نسبةً إلى الحديثة، ليكون الجديد ناسخاً للقديم منها. أمّا لو كان المراد من «الكلام الجديد»: العقائد الدينيّة التي تناولتها الإلهيّات المسيحيّة البروتستانيّة الحديثة ـ حيث يُنفى الإله المحدّد والمعاد الدينيّ، ويُعدّ الوحي فيها تجربةً دينيّةً شخصيّةً فاقدةً للعصمة، ويُصار إلى حقّانيّة جميع الأديان على إطلاقها ـ ففي هذه الحالة، لا مانع من كون الكلام الجديد ناسخاً للقديم. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن تسمية شيء كهذا بعلم الكلام، وعدّه علماً يستهدف الدفاع عن المعتقدات الدينيّة؟! فهل يجوز لنا مثلاً أن نعدّ السارق الذي يُخلّ بالأمن في المجتمع حارساً؟! أو أن نسمّي الجنديّ المتعاون مع العدوّ بالمدافع عن ثغور البلاد؟! أو أن نصف المجرم الذي يبيع أعضاء مرضاه بالطبيب؟! لا شكّ في أنّ أيّاً من هذه التسميات لا تجوز. وعليه: لا يمكن تسمية من يسعى إلى إنكار المعتقدات الدينيّة، ويدافع عن الشبهات الاعتقاديّة بدل الردّ عليها، ويلعب في أرض المسيحيّة البروتستانيّة «متكلّماً إسلاميّاً»، فغاية ما يمكن تسميته به: أنه «فيلسوف دينيّ». ومن العَجب العُجاب دخول البعض في المعترك الكلاميّ بزيّ الفلاسفة، ثمّ وصف أنفسهم بالمتكلّمين، ليغيّروا على الناس معتقداتهم، ويسعون في خرابها، وكذا عدّهم «التفلسف» كواحدة من المهامّ التي يضطلع بها هذا العلم؛ حتّى قال قائلهم:
«يضطلع علم الكلام ـ علاوةً على مهمّته في ردّ الشبهات، وبيان المعارف، وإثبات المباني والأسس الدينيّة ـ بمهمّة جديدة؛ تتمثّل في علم معرفة الدين؛ وعلم معرفة الدين نظرة خارجيّة إلى الدين. ولذا، سمّي الكلام الجديد أحياناً بفلسفة الدين».
وهذا المدّعى باطل؛ لأنّنا سنبيّن ـ لاحقاً ـ الفرق بين «فلسفة الدين» و«علم الكلام الإسلاميّ». أمّا أهمّ القضايا التي يتناولها علم الكلام الجديد فتتمحور حول: «تعريف الدين»، و«حاجة الإنسان إلى الدين»، و«منشأ الدين»، و«عقلانيّة القضايا الدينيّة»، و«أثر الدين ودوره»، و«جوهر الدين وصدفه»، و«لغة الدين»، و«التعدّدية الدينيّة»، و«العقل والدين»، و«العلم والدين»، و«الدين والأخلاق»، و«الدين والدنيا».
نستنتج ممّا تقدّم أنّ الكلام الجديد استمرار للكلام القديم، وعلينا أن نستعرضهما معاً في إطار واحد، ونظام موحّد ومتناسق تحت مظلّة علم الكلام الإسلاميّ المعاصر.
تتابع
المصدر: اسم المجلة: العقيدة، العدد: 1‏، السنة: السنة الاولى - شعبان 1435هـ / 2014م