ويجب التنبيه على أن عمدة المباحث الأصولية مشتركة بين الإمامية وأهل السنة، وإنّما الفارق بينهما أمران:
الأول: الترتيب في الذكر، فإن أهل السنة يبدؤن علم الأُصول بالأَحكام وأقسامها التكليفية والوضعية ثم يبحثون عن أدلة الأحكام من الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس وما ألحق به من الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرهما. ثم يطرحون مباحث الألفاظ ثم مقاصد الشريعة ولها دخل مستقيم في القياس وما ألحق به.
أما الإمامية فيبدؤن بمباحث الألفاظ، ثم حجية الأدلة واحدا بعد واحد، ثم الأُصول العملية وما ألحق بها من الأُصول والقواعد ويختمون بباب التعارض والتراجيح ومباحث الاجتهاد والتقليد. وفي خلال مباحث الألفاظ وغيرها أبحاث في الملازمات العقلية، كمقدمة الواجب والأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ام لا؟ واجتماع الأمر والنهي وغيرها. كما أن لهم بحث مستوفي في خلال باب التعارض يعبّرون عنه بالتزاحم فيما إذا تزاحم أمران، في مقام العمل – وهو بحث عقلي أيضاً – مثل أن يبتلي المكلف في وقت واحد بأداء الصلاة وانقاذ الغريق، ولا يتـّسع الوقت لهما معا، فعند ذلك العقل يحكم بتقديم الأهم على المهم، ومالا قضاء فيه على مافيه القضاء، فيجب انقاذ الغريق وإن فات وقت الصلاة. وهذا باب من الأُصول فيه حل لكثير من المستجدات والنوازل.
الثاني: التمييز بين الأمارات والأصول، وبين الأحكام الظاهرية والواقعية، وأيضاً بين الأحكام الأولية والثانوية والأحكام الولائية وتوضيحها: أن مايتمسّكون به من الأدلة عند استنباط الأحكام يسمونها أمارة لكونها طريقا إلى الأحكام، وما يلتجئون إليه عند الشك في حكم من الأحكام، كالاستصحاب، والبرائة، والاحتياط والتخيير، مما يحكم به العقل غالبا – وبعض منها دل عليه النقل أيضاً – يسمونها الأصل ومجموعها (الأُصول العملية) - كما سبق – من أجل أن مؤداها وظائف عملية فحسب، وليست طرقا إلى ما شرّعه الله في نفس الأمر. وقد يعبّر عن الأمارات بـ(الأدلة الفقاهتية) وعن الأُصول بـ(الأدلة الاجتهادية).
ثم مؤدّى الأمارات إن طابق الواقع الذي شرعه الله، فهي الأحكام الواقعية، وإن خالف الواقع لخطإ حدث في الاجتهاد، فهي أحكام ظاهرية يجب العمل بها على المجتهد وعلى من يقلده، وهي مجزية عند الله مادام لم ينكشف الخطأ. وعند الأصوليين بحث مبسوط في كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، ومن هذا المنطلق نشأ رأي لأحد كبار الأصوليين في القرن الرابع عشر، إلا وهو الشيخ ملا محمّد كاظم الخراساني (م1329هـ) وهو صاحب كتاب (كفاية الأُصول) أهم كتب الأُصول الدراسية لحد الآن، وهو محور المحاضرات الأصولية المعبّر عنها بـ (البحث الخارج) - رأي خاص في تربيع الأحكام بحسب نشأتها عقلا فرتبها إلى (الحكم الاقتضائي) - وهو الملاكات التي روعيت في إنشاء الأحكام، ثم الحكم الإنشائي الذي هو مجرد إنشاء من دون تحديد حدوده وتقييد قيوده ثم الحكم الواقعي المشروط والمعلق، ثم الحكم الواقعي المطلق، فحصر الأحكام الواقعية فيما بلغ المكلّفين وقامت لديهم الأدلة عليه من دون خطأ في الاستنباط، وأما مالم يصل إلى هذه المرحلة فهو حكم إنشائي أو حكم واقعي مشروط.
والحق أن علم الأُصول عند الإمامية، في القرنين الأخيرين اخذ طابعا فلسفيا، فكثير من مسائلها اختلطت بالفلسفة، فلا يفهمها من لا يعرف الفلسفة الإسلامية، وقسم آخر منها من فرط غموضه هو بنفسه نوع من الفلسفة. وقد سرى ذلك إلى كثير من المسائل الفقهية الفرعية. فلها لون فلسفي أيضاً.
وأما تثليث الأحكام إلى الأولية، والثانوية، والولائية، فقد نشأ من ملاحظة أن الأحكام التي شرّعها الله لموضوعاتها من دون عروض حالة خاصة عليها، كوجوب الصلاة والصوم وغيرها من الواجبات، وكحرمة الخمر ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمّات، هي الأحكام الأولية باعتبار تشريعها اولا، فإذا عرض ماغيّر الأحكام الأولية من الضرورات والأضرار ونحوها مثل الاضطرار إلى أكل لحم الميتة، أو شرب الخمر لرفع العطش أو للتداوي إذا انحصر الأمر فيه، وما شابه ذلك، فالحكم العارض بحسب الحالة العارضة هو حكم ثانوي لا يعارض الحكم الواقعي الأولي، لأنه ليس في عرضه وإنّما هو في طوله، لأنه إنما جاء بعد تبدّل الموضوع بطروّ الحالة العارضة، وهو باق إلى أن تزول تلك الحالة العارضة. والفقهاء يرفعون التضاد والتناقض بين كثير من الأحكام من هذا الطريق، ومنها رفع التضاد بين الأَحكام الواقعية والظاهرية كما مر.
ومن هذا المنطلق يدخلون في علاج التعارض بين الأدلة والأصول، فوضعوا مصطلحات: التخصيص – وهو مصطلح عام – والتخصّص، والحكومة والورود، فإن الأدلة والأصول المتعارضة ليست على طراز واحد بل على أشكال متفاوتة في نسبة بعضها إلى بعض، وأعتقد أن أعمق المسائل الأصولية، وأشدّها غموضا هو معرفة إجراء هذه المصطلحات في مجاريها المقرّرة وعدم الخطأ فيها.
وأما الأحكام الولائية فهي مايحكم بها الإمام القائد العام، المعبر عنه بـ(ولي أمر المسلمين) وهو ما اصطلح عليه المسلمون عموما، مع فارق بينهم في المصاديق، فعند الجمهور كل من تصدّى للحكم واتـّفق عليه الناس فهو ولي الأمر، بشروط عند بعضهم، وعند أتباع آل البيت هذا المنصب خاص بأشخاص معيّنين من آل البيت، وهم الأئمة الإثني عشر، ثم من ينوب عنهم من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط. وهذه الأحكام كثير منها من قبيل الأحكام الثانوية حيث عرضت عارضة توجب تغيير الأحكام الأولية، وقسم كبير منها مفوّض إلى وليّ الأمر بما يراه من المصالح العامة للمسلمين فيحكم ويصدر لما لا حكم له فيه من المباحات (ويعبّر عنها العلّامة الشهيد السيد محمّد باقر الصدر(قد) بمنطقة الفراغ حكما جديدا لا يوجد فيما شرعه الله. وهذا ما اشتهر بـ(ولاية الفقيه) التي كان الإمام الخميني(قد) يعوّل عليها كثيرا في أحكامه وآراءه، وكان يقول إن هذه الولاية في نفسها من الأحكام الأولية، لكن مايحكم به الولي الفقيه استنادا إلى هذه الولاية هي من الأحكام الثانوية، أو كما شاع التعبير عنها من (الأحكام الولائية).
وفي ذيل باب التعارض – كما سبق – باب بعنوان (التزاحم) وهذا يرجع إلى ملاحظة المصالح وملاكات الأحكام والترجيح بينها، وترجيح الأهم على المهم، وهذا المبحث مصيره إلى بحث (مقاصد الشريعة) وإلى استنباط وجه الشبه في الأقيسة والأشباه والنظائر ونحوها عند الجمهور. والولي الفقيه له مجال واسع في الإفادة من جميع ذلك. وهذه هي نقطة اتصال الاجتهاد عند الفريقين وللمشاركة الفعالة والجهود المماثلة بين فقهاء الفريقين في هذه وفي غيرها من طرق الاجتهاد ومسائل الفقه مجال واسع سوف يكون فيه حل لكثير من المسائل الفقهية، ولاسيما في صعيد الحكم والسياسة والاقتصاد والصحة والصناعة وغيرها بإذن الله تعالى.
وكذلك فيه تعايش فقهي بين أئمة المذاهب الإسلامية وخير كثير للمسلمين. والتعايش العلمي والتعاون الثقافي من أهم طرق التقريب بين المذاهب، وربما يكاد يعتبر سببا وحيدا للوحدة الإسلامية المنشودة من قبل المصلحين من علماء الأمة في القرن العشرين، وأخصّ بالذكر تلك النخبة من العلماء الكبار الذين قاموا بتأسيس (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) بالقاهرة منذ الخمسينات، فبذلوا جهودا مشكورة في سبيل إٍرساء قواعد التقريب بين الآراء في مجال المسائل الفقهية المختلف فيها، (ولله الأمر من قبل ومن بعد).
*ضوابط الاجتهاد عند الإمامية
بعدما مرت علينا من الأپحاث، لايكاد يخفى على أحد أن الاجتهاد يتطلب شروطا وأسبابا يجب اجتماعها عند المجتهد – نذكرها بإيجاز:
الأول: معرفة جملة من العلوم: كالعلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو والاشتقاق والبلاغة ونحوها وكالعلوم القرآنية وخاصة التفسير عموما وتفسير آيات الأحكام خصوصا، وكثير من الباحثين حصروه في معرفة آيات الأحكام، والصواب التعميم لكل آيات القرآن، لأن في معرفتها بصيرة بالأحكام الإلهية وبسرّ التشريع، ثم بما شرعه الله تعالى للأمم الغابرة.
وأيضاً معرفة السيرة النبوية – وغفلوا عنها غالبا – والسنة النبوية والأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بعد تمحيصها وتوثيقها سندا ومتنا، وكان لأستاذنا الإمام البروجردي رأي خاص في وجوب الرجوع إلى روايات الجمهور وأقوالهم وفتاويهم الشايعة في عصر أئمة أهل البيت، لأن كثيراً من أقوالهم وآراءهم ناظرة إلى ماشاع بين المسلمين من الفتاوي والأحكام في عصرهم، كما أن جملة من السائلين عنهم كانوا من فقهاء أهل السنة، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمامية، أو بقوا على مذهبهم ورووا روايات أهل البيت(ع) وجمعوها في كتاب وهم جملة من أصحابهم. فهؤلاء السائلون والرواة آنست نفوسهم بما شاع عند الآخرين فرجعوا إلى أهل البيت ليعرفوا موقفهم أمام الآخرين – فكان الأستاذ يقول: إن فهم كثير من أقوال الأئمة مبني على معرفة تلك الآراء، ومن هذا المنطلق كان يؤكد على أصحابه معرفة المسائل الخلافية في صعيد الفقه ومعرفة مادارت على المسائل من الأحوال عند المذاهب الفقهية، وكان يكرر أن قدماء أصحابنا كانوا حافظين لمسائل الخلاف عن ظهر القلب.
وكذلك يشترط معرفة علم مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وتاريخ القضاء والفقه بل وشيء كثير من التاريخ السياسي وسيرة الخلفاء والحكام، ودورهم في إصدار الفتاوى من قبل القضاة ورجال الفتوى، بل تاريخ نشأة المذاهب الفقهية على العموم.
وأيضاً معرفة الفقه والفقهاء البارزين في المذهب، ومعرفة علم الأُصول تفصيلا، وعلم الكلام ومباحث من الفلسفة وعلم المنطق والنجوم والأوزان، والنقود ونحو ذلك مما يحتاج إليه الفقيه في بعض الأحيان.
وأيضاً معرفة الأعراف والعادات، فان للعرف دخلا كبيرا في تشخيص الحاجات ومعرفة الحوادث، ومعرفة متطلبات الأعصار ولاسيما في هذا الزمان بالذات. ومن ذلك يعلم أن الاجتهاد قد تعددت أسبابه ومقدماته مما لا يحيط بها عادة مجتهد واحد، ومن أجل ذلك اقترح بعض الباحثين تنويع الاجتهاد وإيكال كل نوع إلى من اختص به، أو إيكال قسم من المسائل النوازل والمستحدثة إلى لجنة فتوائية جمعت بين أحضانها الأخصائيين في كل نوع من أنواع الفقه من الفقهاء، بل وغير الفقهاء من الخبراء في مايحتاج إليه من العلوم الحديثة، والفنون المستجدة، والمفاهيم الجديدة.
الثاني: يرى كثير من الفقهاء الكبار شرط الاجتهاد في جميع هذه العلوم ولا يكفي التقليد فيها، وهذا الشرط في معرفة الكتاب والسنة وضوابط الاستنباط وعلم الأُصول ونحوها كاد أن يكون مجمعا عليه، فلو أفتى المجتهد بشيء اتكالا على فهم غيره من الكتاب والسنة، أو توثيق غيره للخبر، أو رأي غيره في قاعدة أصولية من دون اجتهاده هو فيها، فهذا نوع من التقليد، أو قل: هو اجتهاد في نطاق المذهب، وليس اجتهادا مطلقا، وفي أقسام الاجتهاد كلام كثير عند الفقهاء من جميع المذاهب.
الثالث: العقل السليم، وحسن التشخيص واستقامة الرأي، والحذاقة التامة التي لا تحصل إلا بالممارسة الدائبة، واستفراغ الوسع ليل نهار ونحوها مما يجب حصوله في جميع العلوم والصناعات. وبعض فقهاء الإمامية زادوا شرطا آخر ربما يرجع إلى بعض ماذكر، وهو أن يملك المجتهد قوة قدسية، وذوقاً فقهيا وشما تشريعيا وهي مما يهبها الله تعالى لأهل التقوى والهداية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام..)(الانعام/125) وتتطلب جهادا كبيرا، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(قد)(العنكبوت/69).
الرابع: الإخلاص والتقوي والتعهد والالتزام بما شرعه الله، والتحفظ والتماسك عن التساهل في الفتوى، والاجتناب عن الأهواء والآراء وعن التأثر بما يبدعه المبدعون في كل عصر ولاسيما في هذا العصر الذي غلبت فيه الأهواء والآراء القيم والمكارم، وينادى فيه بالحداثة، والعلمنة حتى في نطاق الأحكام الشرعية، أما العلمنة في نطاق السياسة وفصلها عن الدين فأمر واقع – مع الأسف – في أكثر البلاد الإسلامية تبعا للغر ب وقد نجح فيها أصحابها منذ زمن بعيد، فغرّبوا أو شرّقوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
الخامس: رعاية الترتيب بين الأدلة حسب ما أومأنا إليه، فلا يقدّم ماحقه التأخير، ولا يؤخّر ماحقه التقديم، وهذا يرجع إلى الحذاقة التامة والخبرة الكاملة في الاستنباط والتفقه بكل معنى الكلمة. وكذلك عرض بعض الأدلة على بعض ولاسيما عرض السنة على الكتاب، وهو موضع اتفاق عند أولي الالباب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.
انتهت
المصدر: المجمع العالي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة