printlogo


printlogo


مقالة
بمناسبة ذکری وفاة إبن إدریس الحلّي(قد)
الشیخ محمد طالب یحیی آل الفقیه

مستطرفات السرائر هو ما استطرفه - أي وجده طريفاً - واستذوقه الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس الحلي العجليّ، فقيه الشيعة في عصره، وصاحب كتاب السرائر، وألحقه في نهاية كتابه، وقال: "باب الزيادات، وهو آخر أبواب هذا الكتاب ممّا انتزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين، وستقف على أسمائهم إن شاء الله تعالى".
 ثم قال(ره): "فمن ذلك ما أورده موسى بن بكر الواسطيّ في كتابه "وقال: "ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار"
 وقال: "ومن ذلك ما استطرفته من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطيّ صاحب الرضا(ع)، حتّى أتى على جميع الكتب التي استطرف منها والبالغة واحدة وعشرين كتاباً.
وقد اختلفت كلمات المحقّقين في إمكان الأخذ بهذه الأخبار مع عدم ذكر ابن إدريس طرقها، إذ أنّه(ره) نقل عن الكتب دون أن يذكر طريقه إلى تلك الكتب ممّا يسمّى في علم الرجال "بالوجادة".
*وقد ذكر في المقام ثلاثة أقوال:
الأول: عدم حجيّة تلك الأخبار لإرسالها، وهو قول مشهور.
الثاني: حجيّة تلك الأخبار؛ لأنّه تعهّد النقل من كتب الأصحاب، فلو لم تكن ثابتة لما صحّت نسبتها إلى أصحابها، وهو ما ذهب إليه صاحب البحار والوسائل وغيرهما.
الثالث: التفصيل ما بين كتابَي محمد بن علي بن محبوب ونوادر البزنطيّ وبين بقيّة الكتب المستطرفة، فحكم بالصحّة فيها دون الباقين، وهو ما ذهب إليه السيد الخوئي.
وقد استُدلّ للقول الأول: بكون الكتب مرسلة غير معروفة الطريق، إذ أنّ الحلّي(ره) لم يذكر لها طرقاً، ومع عدمها كيف يمكن نسبتها إلى المعصوم(ع) وترتيب الأثر عليها؟!
وقد أجيب أولا: بأنّ بعض الكتب ككتاب محمد بن علي بن محجوب قد ذكر الحلّي أنّه بخطّ جده الطوسيّ وللشيخ طريق واضح إلى كتابه، إضافة إلى معروفيّة كتابه وشهرته.
ثانيا: إنّما يحتاج الناقل إلى الطريق والسند مع الشكّ في نسبة الكتاب إلى صاحبه و مؤلّفه، وأمّا مع شهرته ومعروفيّة النسبة إليه فلا يحتاج الأمر بعدها إلى طريق، وما نحن فيه هو كذلك، إذ ما ذُكر من كتب هي مشهورة ومعروفة النسبة إلى أربابها، ولا يخفى الأمر على ابن إدريس من أنّ هذه الكتب المنسوبة إلى المذكورين هي لهم فعلا، وإلا لنبّه على ذلك ولو بإشارة، والذي يظهر من تعبيراته أنّه(ره) كان جازماً بنسبة الكتب إلى أصحابها، ولهذا قال: "فمن ذلك ما أورده موسى بن بكر" أو "ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار" وغيرها من التعابير التي يظهر منها نسبة الكتب إلى أصحابها بلا تردّد.
لكن المشكلة أنّ ما بين ابن إدريس وما بين الكتب ما يقارب الأربعة قرون وكانت قد كُتبت كتب ووجدت في السوق ونسبت إلى أصحابها دون أن تصل كتابة أو مشافهة، ومعها كيف يطمئنّ الفقيه بصحّة النسخة التي بين يدي ابن إدريس وأنّها وصلته بطريق صحيح، بل غاية ما يُقال إنّ ابن إدريس كان يطمئنّ بصحّة النسخ وأنّها فعلا هي لأربابها، إلا أنّ اطمئنائه لا يكفي للقول بصحّة الكتب التي استطرف منها بالنسبة إلينا.
وقد استُدلّ للقول الثاني: أولا: بكون الحليّ(ره) لا يعمل بخبر الواحد وقد صرّح في بداية السرائر بذلك فقال: " ولذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الأحاد، لأنّها لا توجب علماً ولا عملاً فعلى الأدلةّ المتقدّمة أعمل، وبها آخذ وأفتي وأدين الله تعالى، ولا ألتفت إلى سواد مسطور، وقول بعيد عن الحق مهجور، ولا أقلّد إلا الدليل الواضح والبرهان اللائح، ولا أعرج إلى أخبار الأحاد".
فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أنّه اعتمد أكثر من طريق ليعمل بالكتب المذكورة إذ أنّه لا يعمل بأخبار الآحاد فضلا عن المراسيل، ولذلك يمكن القول إنّ الكتب المذكورة قد وصلته بأكثر من طريق لاعتماده عليها.
وفيه أولا: أنّ ما استطرفه لا يُعلم أنّه كان مورد عمل وإفتاء بالنسبة إليه، إذ لم يصرّح بذلك - وإن كان مظنونا ـ فلعلّ نقل تلك الأخبار كان لمصالح أخرى غير مصلحة العمل والإفتاء.
وفيه أيضاً: أنّ من راجع السرائر كثيرا ما يجده مستدلا بخبر واحد، أو أنّه إذا نافى خبراً لم يسقطه بكونه خبر واحد، وإنّما من جهات أخرى، وهذا ما هو ملاحظ في السرائر، وممّا يؤيّد هذا أنّه(ره) قد أخذ من كتب هؤلاء المذكورين وكلّ منهم "واحد" فلا محالة أنّه توسّط الخبر "واحد" سواء كان ما قبله وما بعده متعدّداً أم لا.
ثانيا: ما أفاده الشيخ الداوريّ من أنّه بحث فوجد للحليّ(ره) إلى أصحاب الكتب طرقاً كثيرة في إجازات الأصحاب - وقد بلغت ثمانية ـ وهذا ما يظهر منه تماما وصول الكتب لابن إدريس بطرق مشهورة صحيحة متكاثرة وبذلك تخرج عن الإرسال.
قال في كتابه أصول علم الرجال: "ولكنّنا بعد التتبّع التام في جملة من الطرق رأينا إمكان تصحيح هذه الروايات واستظهار طريق لابن إدريس إلى هذه الكتب والأصول، فقد عثرنا في ثماني إجازات أنّ لابن إدريس طريقاً إلى هذه الكتب؛ لأنّه ورد في هذه الإجازات أنّ ابن إدريس يروي جميع كتب الشيخ ومنها كتاب الفهرست، فإذا كان يروي كتاب الفهرست وما اشتمل عليه من الكتب والأصول فحينئذ تكون طرق الشيخ إليها طرقاً لابن إدريس...".
ثم ذكر شرطين وبدأ بعد ذلك بذكر الإجازات الثماني ثم قال: "والنتيجة خروج روايات مستطرفات السرائر عن حدّ الإرسال ودخولها في حيّز المسانيد، وتترتّب على ذلك فوائد كثيرة كما لا يخفى، فقد كانت هذه الروايات - ولا تزال - تعدّ من المراسيل".
*انتهى محلّ الحاجة من كلامه
لكنّي لا أدري كيف صحّح بالإجازات تلك الكتب مع أنّ ابن إدريس لم يذكر أنّ النسخ التي بين يديه قد وصلته من تلك الطرق !!
وبعبارة أخرى: تارة تكون النسخة مستندة إلى الطريق فيقول مثلا "أنقل هذه النسخة عن فلان عن فلان" حتى يصل إلى صاحبها، وتارة أخرى يكون له إجازة إلى الكتاب لكنّه لم يصرّح بأن النسخة قد وصلته من ذاك الطريق فكيف يمكننا بعدها إثبات كون النسخة هي من الطريق المذكور، ولعلّ النسخة التي يروي عنها قد اشتراها من السوق وصارت عنده ولم تصل مشافهة أو رواية، بل لعلّه وصلته من طريق أحد المشايخ ظانّا أنّها لابن محجوب لنسبتها إليه، وهي ليست له واقعا.
وخلاصة الكلام: أنّ الإجازة تنفع فيها لو كانت النسخة التي بين يدي الحليّ واصله إليه من ذلك الطريق وقد علم ذلك، وأمّا أن يكون له طريق الكتاب ونسخة بين يديه دون العلم بوحدة النسخة والطريق فإنّه لا ينفع لتصحيح الكتاب.
ثالثا: كون الكتب المستطرف منها مشهورة، والشهرة مانعة عن التغاير بالدسّ والتزوير، وبذلك يثبت كون الكتب المنسوبة هي لهم فعلا.
ويقال في جوابه: إنّ الشهرة تثبت الكتاب المشهور لغرابة القول بإمكان الدسّ والزيادة والنقيصة مع الشهرة، لكن الكلام في أنّ النسخة التي اعتمدها الحليّ هل هي مشهورة أو وجادة، خاصّة أنّ الكتب كثيراً ما كانت تُكتب وتُنقل وتُباع في الأسواق كما ذُكر ذلك في محمد بن سنان إذ نقل عنه ابن داود قوله: "ولا ترووا عنّي ممّا حدّثت شيئا، فإنّما هي كتب اشتريتها من السوق".
 ومع هذا كيف يطمئن الفقيه كون الكتاب لصاحبه وليس وجادة قد اشتراه ابن إدريس من السوق مع قرائن تثبت نسبة الكتاب إلى صاحبه، إذ معه لا يمكن الاعتماد على الكتاب وذلك لعدم حجيّة اطمئنانه على الآخرين.
وقد استُدلّ للقول الثالث: بما أفاده ابن إدريس في سرائره إذ قال: "ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب نوادر المصنّف تصنیف محمد بن علي بن محبوب الأشعريّ الجوهريّ القميّ، وهذا الكتاب كان بخط شيخنا أبي جعفر
الطوسي(ره) مصنّف كتاب النهاية(ره)، فنقلت هذه الأحاديث من خطّه من الكتاب المشار إليه" انتهى.
ومنه يظهر أنّ الكتاب هذا كان بعينه عند ابن إدريس، وليس وجادة ولا أنّه مشترى من السوق، ولمّا كانت النسخة صحيحة النسبة إلى الشيخ(ره) يثبت بذلك صحّة كتاب محمد بن علي بن محبوب وذلك لصعوبة القول بأنّ نسخة الشيخ أيضا لم تثبت صحّتها.
وأمّا نسخة البزنطيّ فلم أجد لذلك وجها للقول بصحّتها، وما نقله الداوريّ عن السيد الخوئيّ للقول بصحّته فعهدته على قائله.
نعم، لو قيل ذلك في كتاب الحسن بن محبوب لأمكن إثبات وجهه بقول ابن إدريس "تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب الحسن بن محبوب السرّاد الذي هو كتاب المشيخة وهو كتاب معتمد".
وبعدما تبيّنت لك الأقوال وأدلّتها وما قيل فيها نقول والله المستعان:
من الواضح أنّ ابن إدريس(ره) قد نسب الكتب إلى أصحابها على نحو الجزم ولم يتردّد في ذلك، ورتّب على ذلك آثارا، وقد استطرف من خصوص كتب - فعلا - هي مشهورة بأجمعها إلا ما قد يقال من شهرة كتاب جعفر بن محمد بن سنان، وإلا فالكتب مشهورة، بل معظمها في غاية الشهرة، ومن الغريب القول بأنّ ابن إدريس يشتري كتب من السوق وينسبها إلى أصحابها مع العلم بأنّ الطريقة الرائجة بل والمنحصرة في أيّامهم تلك هي قراءة الكتب أو السماع أو المناولة، ولهذا شنّت الطرق وقد أكثروا فيها الكلام والشروط وغيرها، حتى أنّهم لم يصحّحوا العمل بالوجادة مطلقاً وأنكروا عليها أشدّ إنكار، ولهذا تجد أخبارنا كلّها مسندة إلى الإمام(ع) عبر طرق وأسانيد معروفة مشهورة، فنسبة القول بأنّ ما رواه ابن إدريس مع نسبته الكتب على نحو العلم والجزم إلى أصحابها بأنّها وجادة مشتراة من السوق أو مرويّة عن المجاهيل أو غير ذلك استخفاف به وبعلمه، وإثبات لتدليسه، وبأنّه خرج عن الطريقة المعروفة للطائفة الحقّة.
ولهذا يُقال بأنّ مستطرفات السرائر لشهرتها وجزم ابن إدريس بأنّها لأصحابها - وهو واضح لمن راجع المستطرفات - ولتصريحه ببعضها بأنّها منقولة عن خط الشيخ، ولبيانه في أخرى بأنّها "كتاب معتمد" يمكن اعتمادها والعمل بها والفتيا بمضامينها ويبقى البحث من بعد أصحاب الكتب إلى الأئمة المعصومين(ع) فإن صحّ السند صحّت الأخبار وإلا سقطت عن الحجيّة بما بعد أصحاب كتب المشيخة والله العالم بحقائق الأمور.
المصدر: سدرة الکمال في علم الرجال