printlogo


printlogo


مقالة
المرجعية الدينية والحوزة العلمية في مواجهة التيارات الفكرية الإلحادية المنحرفة

إنّ من أهم الأسباب في انحسار التيارات الفكرية الإلحادية والمنحرفة، عن الإسلام عامة، والتشيع خاصة قوة الدين والمذهب، وأصالتهما، وعقلانيتهما، مما يوجب تجذّرهما في أعماق الإنسان عقليا وعاطفيا، وقبوله دعوتهما، واستجابته لهما بطبيعته الأوليّة.
وأقوى شاهد على ذلك في هذه العصور أنّ المسيحية التي هي اقوى دين بعد الإسلام، كانت قد غمرت الغرب وحكمته قروناً طويلة، وقد نبعت في أوساطها الدعوة العلمانية المتحللة باتجاهاتها المختلفة، ونشطت لها وقارعتها حتى انهارت المسيحية واستسلمت، ولم يبق منها إلاّ اسماء خالية وهياكل جوفاء تتعايش مع العلمانية ولا حول لها ولا قوة أمامها إلى يومنا هذا.
بل صارت المسيحية _بقوتها التبشيرية_ واجهة للاستعمار الغربي العلماني وأداة لتثبيته في الشعوب المستضعفة.
حتى اذا استكملت العلمانية الغربية قوّتها توجهت للبلاد الإسلامية _وهذه في منتهى ضعفها_ فاكتسحتها بقوّتها العسكرية الهائلة وبحضارتها ومكتشفاتها الجبّارة، وبشعاراتها البرّاقة في الحرية والعدالة وحفظ حقوق الإنسان وغيرها، لتقضي على الإسلام في مهده وتقتلعه من مغرسه.
وقد نجحت فعلاً في اكتساح تلك البلاد، والنفوذ فيها عسكريا وسياسيا حتى الآن، إلاّ أنّ صراعها مع الإسلام باء بالفشل، وقام الإسلام على قدميه عقيدة أصلية متجذرة. وقد فرض نفسه عالميّاً حتى أثار قوى الشر، فهي تحسب له حسابها، وتعد له عدتها.
ولم ينحسر الإسلام في البلاد التي دخلها الاّ في بلاد الأندلس، لضعف الإسلام الذي حلّ فيها، لإنّه أموي النزعة والتطبيق، منقطع عن منابعه الصافية بسبب بعد البلاد المذكورة عن عواصم الإسلام، ولقسوة الهجمة التي اكتسحته وشراستها وطول مدّتها، ولانها جاءت في دور وهن المسلمين.
على أنّه بلغنا وجود بقية له هناك، ومثل هذا يجري في التشيّع حيث بقي متماسكاً مع عنف الهجمات التي تعرض لها في تاريخه الطويل وقوتها وقسوتها، بل ازداد رغم ذلك قوة وصلابة ونشاطا وتوسعا، وفرض نفسه على الساحة العالمية.
كل ذلك لقوة دعوته وتناسقها ومنطقيتها، وخلوّها من المفارقات والتناقضات وسيطرتها على العقل والعاطفة.
وبالنظرة الموضوعية المنصفة يتّضح أن بقاء الإسلام إنما هو ببقاء التشيع، لأنه الإسلام الحقيقي المتكامل المتوثّب، ذو القلب الحي النابض، والعقل المتفتح الناضج، والفكر الصافي الخالي من الشوائب والأوهام والخرافات ومن المفارقات والسلبيات، والصوت المدوّي بالحق والعدل، ورفض الباطل والظلم.
ولذا تحزّبت عليه قوى الشر وأعداء الإسلام، وأعدّت له عدّتها لتقضي على (الإسلام) باسمه، ولو بالاستعانة ببعض الفئات المنتحلة له التي سبق لها أن استعانت بها لإضعاف هذا الدين أو القضاء عليه.
وتبدو أهمية الحوزات العلمية وموفّقيتها في إصلاح المجتمع فكريا من بقاء التشيع على نقائه و صفائه ووحدته وتكامله في عصر الغيبة الطويل، حيث يغيب القرار المركزي المعصوم، وحيث يتاح لكل أحد أن يقول ما يريد، إذْ من شان الدين _بعقيدته وسلوكياته_ حينئذ أن يتعرض للاجتهادات والتخرّصات ولمحاولات التحريف والتحوير من الداخل، وللمواجهات الفكرية والضغوط من الخارج، مما قد يضطره لتناسي بعض حقائقه، وتجاهلها والتغاضي عنها.
غير أن التشيع بعناية الله ورعاية إمام العصر عليه السلام وبجهود علمائه العاملين بقي متماسكا هذه المدة الطويلة من دون أن ينحرف عن خطه المعهود. على أنه تعرض لكثير من المشاكل والفتن الداخلية.
التي كادت أن تقضي على وحدته، إلاّ أنّ الفتن هذه لم تلبث أن هدأت، وتراجع أهل الرشد والتقوى لتمييع الخلاف، والتركيز على الأصول المشتركة، وجمع الشمل ورتق الفتق، حتى عادت الوحدة بين أهل الحق، ولم يبق للتعصب وجود يذكر.
لقد تعرّض التشيع لفتن متلاحقة لم تلبث أن انحسرت، ورجع الكثير إلى دينهم وعقائدهم الحقة وانضووا تحت لواء التشيّع وفي كيانه العام، وانعزل المتشبثون بتلك الأفكار في فئات، بعضها خرج عن الإسلام رأسا، وبعضها بقي عليه في قلّة قليلة غير معتدّ بها، معزولة عن الكيان الشيعي العام، لا تؤثر على مسيرته ونشاطه.
وكل ذلك بفضل قوة التشيع وجهود الحوزات الشريفة وعلمائها العاملين.
وبمقارنة سريعة مع بعض المذاهب والأديان الأخرى تتضح ميزة التشيع في ذلك، فالوهابية فرقة نشأت في العصور القريبة لتشق وحدة المسلمين وتفرّق كلمتهم، وقد كان لها الدور المهم في إضعافهم وإضعاف الخلافة الإسلامية السنيّة، وفي التمهيد لنفوذ الأجانب في البلاد الإسلامية.
وحتى أوائل القرن الماضي، قبيل الحرب العالمية الأولى كانت بنظر المسلمين عموماً هي الفرقة المبدعة الخارجة، المفسدة في الأرض، المنتهكة للحرمات، حتى اذا استتبّت لها الأمور خفت صوت التسنن ضدها وأعُترف بها، ثم نشطت، واذا هي الآن الأقوى مادياً، والأعلى صوتاً، بل قد تكون اليوم هي الناطق الأظهر باسم التسنّن، لما تملكه من قوى مادية هائلة ودعم خارجي غير محدود لا تخفى على المتبصّر، ولم يقو التسنّن على إنهائها ولا على تحجيمها عقيدياً وفكرياً.
وهذه المسيحية الكاثوليكية قد استحدث فيها المذهب البروتستانتي باسم الإصلاح في القرن السادس عشر الميلادي، وقد ثبت المذهب المذكور أو استحكم ونشط، وصار لكنائسه كيان ونشاط قوي ينافس الكنائس الكاثوليكية، ويقف في وجهها، ولم تقو الكاثوليكية على استيعاب الخلاف وتمييعه، ولا على تحجيمه، بحيث ينحصر في فئة قليلة غير معتد بها تعتبر شاذة عن الكيان العام، نظير الفئات المشار إليها آنفاً في التشيع.
المصدر: صحيفة صدى المهدي(عج)