مقالة/ الجزء الأول
نظرة في وظائف الحوزة العلميّة ومسؤولياتها وفق رؤية الإمام الخامنئي
تمهيد: تمثّل الحوزة العلمية المرجعيّة التربويّة الأساسية، لناحية صياغة الرؤية التربوية، ووضع مرتكزات العملية التعليمية ومكوّناتها المنهجية فضلاً عن الأنظمة والبرامج المختلفة، فإن وجودها - ككيان علمي وتربوي - يؤدّي وظيفتي التربية والتعليم؛ الهادفة أساساً إلى تربية الإنسان وبلورة البنية المعرفية له يرتبط بأشرف وأسمى تكليف إلهي لنبي الإسلام محمد(ص) والمتعلّق بهداية الناس وتزكيتهم وتعليمهم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
وهذا ما يؤكّد دور الحوزة في رفد الفكر والمجتمع الإسلاميين بمنظومة من المناهج والبرامج والرؤى، تحقّق هذه الغاية سيراً على هدي النبي(ص)، وتثري العملية التربوية والتعليمية، وتؤمَّن الدقة والموضوعية والواقعية في صياغة الأهداف؛ فضلاً عن سلامة تحقيقها.
ولهذا يجب أن تكون الحوزة في حالة نموّ وتطوّر دائمين، فالحركة والتطوّر هما قوام حيوية الأفكار والمبادئ، وبهما تضمن الكيانات الفكرية والعلمية حياتها وقدرتها على الإستمرار ومواصلة المسار، لأن الفكر الذي يتخلّف عن مواكبة الأزمنة والعصور، ويفتقد القدرة على تلبية متطلّبات الحياة والمجتمع، هو في الحقيقة، ليس فكراً حياً؛ لأنه يفتقر إلى الحركة، وما يتّسم بالجمود سيفضي بكل شيء إلى الموت حتماً.
و لا بدّ للكيان الحوزوي من أن يكون حيّاً فاعلاً في الحياة الاجتماعية في كل الأزمنة والعصور، ومساهماً في رفد المجتمع بكل عناصر القوّة والثبات، وأن يكون متجاوباً مع تطلّعات العصر، ومنجزاته، ومتطلّباته. خاصة وأننا عندما نتصفّح أوراق تاريخ الحوزة العلمية لقرون خلت سواء في حوزة جبل عاما، وفي حوزتي قم والري أو بغداد، وبعدها في حوزتي النجف أو قم ثانية، نجدها متألِّقة زاهية، وتنتابنا حالة من الإعتزاز والفخر حينما نلاحظ أعلام الطائفة مثل الصدوقين، والكليني، والشيخ المفيد والسيد المرتضى وشيخ الطائفة والعلاّمة الحلي... والمحقق وفخر المحقّقين وأضرابهم كثير ممن امتلئت بهم ساحات العلم والجهاد ومواجهة الظالمين، واستطاعوا أن يرتقوا بمدارسهم الفكرية وجهادهم إلى قمّة التطوّر وذروة الإنسجام مع الواقع الذي كانوا يعيشونه، في معادلة حافظوا فيها على الأصالة العلمية للحوزة وثوابتها، ورسموا للمجتمع معالم وأسس المقاومة العلمية والفكرية- التي كانوا قادتها- في مواجهة الظالمين والمستكبرين.
ومن الواضح أن الدين الإسلامي هو مشروع لتغيير حياة الأمّة إيجاباً في مختلف الأبعاد التي تهمّ الحياة الإنسانية وبكل متطلّباتها، بما ينسجم مع قيم هذا الدين، ومن المعلوم أن العلماء من المحدّثين والفقهاء والمجتهدين والمتكلّمين وغيرهم في عصر الغيبة، ومن بعدهم المراكز والحوزات العلمية قد أخذوا على عاتقهم وظيفة التصدّي في تبليغ الرسالة، وتفسير الدين بما هو منظومة متكاملة للحياة، وشرح النظريات الدينية المختلفة، وبالتالي فمن يريد فهم الدين ونظرياته لا بد أن يسأل المفسّر الرسمي له وهو الحوزات العلمية، فإن لم تتدخّل الحوزة بمؤسّساتها وعلمائها وأساتذتها للإجابة عن هذه التساؤلات ووضع الحلول المناسبة لها فهذا يعني إنها تترك الساحة لغيرها، فالآخرون سوف لن يسكتوا عن ذلك، لأن هذه القضايا الحية تتطلّب إجابات ومعالجات منهجية وعلمية موضوعية، فإن حركة الحياة لا تتوقّف بسكوتنا، بل سيقدّم الآخرون نظرياتهم ورؤاهم وقراءاتهم في هذه المجالات بإسم الدين، ولا يمكن بالطبع أن نحظّر عليهم ذلك!
وكنتيجة منطقية لهذا الواقع تتراكم التحدّيات العلميّة و التربويّة والتعليمية، فضلاً عن الفكرية والفلسفية في الساحة العلمية، والتي بدأت تشق طريقها وتأخذ مكانها الطبيعي في منظومتنا التربوية والعلمية، لا بل أشعرت الكثيرين بضرورة التخلّي عن جوانب هامة من البنى والمرتكزات التربوية والتعليمية، لصالح الجديد أو المستورد. وما ذلك إلا لشيوع روح التبعية والتقليد، بعد ترك ساحة صناعة وصياغة النظريات وتكوين الرؤى لغيرنا، أو لغير المؤّهلين منا.
ولهذ كله لا مجال للتردّد في أن مسؤولية الحوزة العلمية عالمية وشاملة، وفي سُلَّم أولوياتها الإنسان والمجتمع، ومتابعة واقع العصر والإنسان المعاصر، ودراسة أفكاره، وشؤونه، ومعرفة تطلعاته؛ من أجل التخطيط للحركة الحوزوية التي عليها أن تنطلق من هذه الأرضية لو أرادت القيام بمهمتها وتبليغ رسالتها على أفضل وجه. فيتحتّم علينا أن نتفهّم واقع الأمة الإسلامية، بل نتعدّى ذلك إلى الإنسان في كل مكان؛ إذ لا مكان لإنسان يكون خارج نطاق مسؤولية الحوزة مهما كانت قناعاته المذهبية والدينية. "فالإحساس بالمسؤولية" تجاه الحوزة ذاتها والتاريخ والأمة الإسلامية حافزاً أساسياً بالنسبة إلى الحوزويين طلاباً وأساتذة ومسؤولين، وبدون تكوين هذا الإحساس الجماعي لا يمكن القيام بأي عمل جاد وأساسي على مستوى من النضج والدقة والمتانة، كما أنّ أي تطوّر وتطوير يصعب حصوله دون وجود المتابعة الجادّة، مثلها الثقة والاطمئنان بالنتائج وبالمستقبل، وحينئذ فمن الممكن أن نعتبر أنَّ هؤلاء الحوزويين قد تحوّلوا بالفعل إلى نقطة أمل للأمّه وأنهم من صانعي مستقبل هذا المجتمع وسائر المجتمعات الإسلامية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الطرح يستند بشكل أساسي على رسالة الحوزة العلمية وأهدافها، المتمثّلة بفهم الإسلام (عقيدة، وشريعة، ومنهاجاً شاملاً يغطي شؤون الحياة كلها) من خلال فهم الكتاب والسنة بالاعتماد على الدراسات المنهجية المعمّقة المرتكزة على مبدأ الاجتهاد بمختلف أدواته، إضافة إلى وظيفة إيجاد المناخ العلمي الواعي، ونشر الشريعة وتبليغها، تمهيداً لبناء المجتمع الإنساني المتّزن الذي تسوده العدالة والرحمة والمودة والعزة والكرامة.
وينطلق في بعده التربوي من تثمير الفلسفة التربوية للحوزة العلمية، ففلسفة التربية تعني مجموع المبادئ، والمفاهيم، والقيم، والميول التي تشكّل معاً إطاراً موجّهاً لسلوك الفرد، أو الأسرة، أو المؤسسة، في العمل، أو التربية، أو الحياة . وتعتبر فلسفة التربية القاعدة النظرية الأولى لاشتقاق مواصفات الإنسان المطلوب بالتربية المنهجية، ومن ثم بناء الأهداف العامّة والخاصة التربوية.
*رؤية الإمام الخامنئي الاستشرافية لوظيفة الحوزة العلمية ومسؤولياتها:
لا بد من العمل الدؤوب والسعي الدائم لتكريس مبدأ التوافق على مستوى معيّن من التطوير والتحسين والتنمية والترشيد في الحوزة العلمية، ولاسيما ما يتعلّق بالجوانب المنهجية والتربوية والتعليمية، والوصول إلى قناعة تامّة ترتكز على مبدأ إعادة الدور الريادي للحوزة العلمية في ساحتي التربية والتعليم وبناء المجتمع، والتصدّي لمختلف ألوان الإشكاليات التي تواجه الفكر الديني، ومواكبة حركة التجديد والتغيير في المجالات كافة.
وتشكّل أطروحة الإمام الخامنئي في هذا المجال مفصلاً حاسماً في تاريخ الحوزة العلمية، وضرورة سيادة دورها الريادي في الساحة العلمية والتربوية العالمية، وقدرتها على أن تكون مركز تأسيس النظريات والعلوم، وتوجيه العملية التعليمية والتربوية باتجاه الأهداف الواقعية .
*الأسس والمنطلقات:
1- أصالة الحوزة وعمقها: إنّ مبدأ تكميل الحوزة العلمية وتطويرها، لا هدمها من المبادئ المهمّة في العمل التطويري داخل الحوزة العلمية، حيث إنَّ الحوزة العلمية نشأت وقام صرحها العلمي والفكري والجهادي طوال قرون عديدة، من خلال جهود جبّارة لعدد كبير من العلماء والصلحاء والمصلحين، فلا يمكن بالانقطاع عن ذاك الماضي العريق الحافل بالتجارب والخبرات الثمينة في مجالات عدة، ومن ينادي بالانقطاع عن هذا التراث الغني فإنّه بعيد عن فهم الحوزة ورسالتها وأهدافها... وانطلاقاً من هذه الرؤية فإننا: "حينما نتحدّث عن البناء وتجديد مؤسسة الحوزة، لا ينبغي أن يتصوّر أحد أننا نقصد هدم جميع أركان الحوزة. ليس الأمر هكذا إطلاقاً، بل فلا بد من الاستفادة الكاملة من الطاقات والذخائر الثمينة لحوزة قم العلمية، وأن يصار إلى تنظيمها، وأن يمتنع عن تكرار الأعمال السابقة" . حيث نجد أن العديد من الفضلاء يقومون بإعادة نشر ما قام به آخرون، من دون أدنى إثراء وإغناء للفكر والصور، وهذا ما يعيق التقدم والتطوير.
تتابع
المصدر: مرکز الأبحات و الدراسات التربویة