printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الأول
الاجتهاد عند الشيعة الإمامية 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطاهرين وصحبه الميامين، ومن ‏تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد:‏
أيها الحفل الكريم: إنه لمن دواعي السرور والشكر عندي الاشتراك في هذه الندوة المباركة التي ‏جمعت في أحضانها نخبة من العلماء والباحثين من الأقطار الإسلامية، للبحث عن أهم المواضيع ‏الإسلامية وهو (الاجتهاد في الإسلام).‏
وإني إذ أحييكم بأطيب التحيات أقدم  إليكم بحثا متواضعا بعنوان: (الاجتهاد عند الشيعة الإمامية ‏مصادره وضوابطه). وقبل الخوض في صميم الموضوع أشير موجزا إلى شيء من التحولات التي ‏مرّت على فقه الإمامية تمهيدا للحبث:‏
*تمهيد
مادة الفقه بحسب اللغة تحتوي في ذاتها فهم الأمور الخفية وكشف الخبايا أو كما قيل: (معرفة الباطن ‏من الظاهر) وأطلقت أولا بشكل عام على الرسوخ في علم الدين وفهمه عميقا، انطلاقا من قوله تعالى: ‏‏(وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ‏إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة/ 122).‏
والتفقه بصيغة التفعل يؤكد عمقا في الفهم ثم شاع استعماله في وقت لا يعرف بالضبط، ولعله في عصر ‏الصحابة والتابعين على استنباط الأحكام خاصة، فكان يقال للمختصين بمعرفة الأحكام عن بصيرة ‏وفقه: (الفقهاء) وقد اشتهرت طائفة قليلة من الصحابة، وطائفة أكثر من التابعين بوصف الفقهاء.‏
فالتعبير عن فهم الدين عموما وعن استنباط الأحكام خصوصا بـ(التفقه في الدين أو في الأحكام) من ‏حيث المادة والصيغة مشعر بما يتطلبه فهم الدين وخاصة قسم الأحكام منه من الدقة والتعمق، الأمر ‏الذي عبّر عنه القرآن الكريم – ثم الفقهاء – بـ (الاستنباط). قال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى ‏أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء/ 83). والإستنباط في اللغة هو استخراج الماء ‏من البئر، ثم استعير لإخراج ماخفي من الأحكام وغيرها من مصادرها ومن هذا المنطلق شاع إطلاق ‏‏(الفقه) على علم الأحكام الشرعية وكذلك (التفقه) على عملية استنباط الأحكام.‏
ثم عبّروا عنها في وقت سابق لا يعلم مداه  بـ (الاجتهاد) باعتبار أنها تتطلب جهدا كبيرا واستفراغا ‏للوسع – وقد عرّفوا به الاجتهاد أيضاً – فقالوا: (الاجتهاد هو استفراغ الوسع لمعرفة الاحكام).‏
ولعلهم حينما عبّروا عن الاجتهاد كمصدر من مصادر الفقه، ثم أطلقوه على عملية استنباط الاحكام ‏تبعوا في ذلك معاذ بن جبل الصحابي(ره) عنه، حينما أراد النبي(ص) أن ‏يبعثه إلى اليمن قاضيا، فسأله – كما جاءت في كتب الحديث(1): ما معناه: (بماذا تقضى؟ فقال: ‏بكتاب الله، فقال(ع): فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله(ص)، فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد ‏رأيي) وهذا الحديث كالنص على أن الاجتهاد عند معاذ كان مصدرا من مصادر القضاء بعد فقدان ‏الحكم في الكتاب والسنة.‏
ولكنه مالبث حتى أطلق على نفس استنباط الاحكام من مصادرها. وكيف كان فقد استمر الاجتهاد ‏في جميع العواصم الإسلامية العلمية كالمدينة ومكة والعراق والشام ومصر وغيرها عند فقهاء البلاد ‏استنادا إلى الكتاب والسنة وما ألحق بهما من الإجماع والقياس والرأي والاستحسان وغيرها على ‏خلاف بينهم في غير الكتاب والسنة من الأدلة.‏
وكلما توسّعت رقعة الإسلام، وتنوّعت الأعراف والعادات، وازدادت وتضاعفت الحاجات في صعيد ‏الشريعة والأحكام، أو في حقل الأقضية والفتاوي، توسّع واستكمل نطاق الاجتهاد، كما اختلفت الآراء ‏والأقوال وبرزت المذاهب والمدارس الفقهية في البلاد، حتى أصبح علم الفقه والاجتهاد من أبسط ‏العلوم وأطولها، بل وأهمها في الإسلام، ذا شقوق وفروع وأصول وأركان، مرتبطا بجملة من العلوم ‏الأدبية واللغوية القرآنية والحديثية وغيرها.‏
وقد تكفّل علم برأسه – وهو علم أصول الفقه – بيان أصوله  وضوابطه وأسسه وقواعده.‏
هذا هو مصير الاجتهاد عند الجمهور، وأما الشيعة الإمامية فكانوا يكتفون إلى أواسط القرن السابع ‏الهجري – رغم استكمال الفقه عندهم وتوسّعه - بالتعبير عن هذا العلم بلفظ (الفقه) وعن عملية ‏الاستنباط بلفظ (التفقه) جريا على طريقة السلف واتباعا لأئمتهم من آل البيت(ع)‏ مجتنبين التعبير ‏بـ(الاجتهاد) لأنه كان عندهم مساوقا للرأي والقياس اللذين نهى عنهما الأئمة، وقد جوزهما كثير من ‏فقهاء الجمهور.‏
قال الشيخ الطوسي – المعروف بشيخ الطائفة الامامية – (385 – 460هـ) في كتاب (عدّة ‏الأُصول)(2).‏
بعد ذكر أصول الأحكام عنده: (وقد ألحق قوم بهذا القسم الكلام في الإجماع والقياس والاجتهاد... – ‏إلى أن قال: وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا... وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا ‏بدليلين، بل محظور استعمالهما...).‏
فالشيخ الطوسي، وهو يعيش في أوساط القرن الخامس الهجري بقي الاجتهاد عنده على معناه الأول ‏مرادفا للقياس كمصدر للفقه عند الجمهور، لما ثبت عنده في المذهب أنه محظور من قبل الأئمة من ‏آل البيت(ع)، ولاسيما الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع) الذي كان يؤكد على تحريم العمل ‏بالقياس والرأي، ويناقش أصحاب الرأي وعلى رأسهم الإمام ابا حنيفة كما جاء في المصادر(3).‏
والظاهر أن المحقق الأول، أو المحقق الحلي (م 676هـ) نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي – وهو ‏من كبار فقهاء الإمامية في القرن السابع – أوّل من أطلق لفظ (الاجتهاد) من الإمامية على استنباط ‏الأحكام في كتابه (معارج الوصول في علم الأُصول).‏
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الفقه عند الإمامية في القرون الثلاثة الأول محصورا فيما روي ‏عن الأئمة من الأحاديث والفتاوي مع مافيها من معالم ونماذج من الاستدلال والاستشهاد بالكتاب ‏والسنة، حيث أن الأئمة كانوا مهتمين بتدريب أصحابهم على ذلك فقد قال الإمام أپو جعفر محمّد بن ‏على الباقر عليه السلام (48 – 114هـ) وهو والد الإمام الصادق وخامس الأئمة من آل البيت – ‏لأبان بن تغلب (422) وكان من فقهاء أصحابه وكانت له مكانة عالية عند أهل السنة: (اجلس في ‏مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)(4).‏
وروى زرارة بن أعين وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق(ع): مامعناه قلت ‏لأبي عبد الله – أي الصادق(ع): من أين علمت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين، ‏فأجابه بأن الله قال: (فاغسلوا وجوهكم) فعرفنا أن الوجه يغسل كله، وقال: (وأيديكم إلى المرافق) ‏فعلمنا أنه يجب غسل اليدين إلى المرافق. ثم فصّل بين الكلام فقال: (وامسحوا برؤسكم) فعلمنا أن ‏المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ‏‏(وأرجلكم إلى الكعبين) فعلمنا أن المسح على بعض الرجلين...)(5). وكلّنا يعلم أن مسألة مسح ‏الرجلين وغسلهما في الوضوء كانت ولازالت متضارب الآراء بين الفريقين، وهناك شيء كثير من ‏الحوار والمحاجة بين الطرفين في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الفقه، كمسائل العقيدة والكلام، ‏جاءت في كتب مسائل الخلاف.‏
وهكذا كان الفقه عند الإمامية في غالب الحديث نقلا عن الأئمة بأسانيد شتى إلى أوائل القرن الرابع ‏الهجري، وكلما جاءت من أسامي الكتب في فهارسهم، ولاسيما في فهرست الشيخ الطوسي، وفهرست ‏الشيخ النجاشي (م450هـ) منسوبة إلى فقهائهم ومحدّثيهم الذين عاشوا قبل ذلك فهي مجموعات من ‏الأحاديث الفقهية وهي قسمان:‏
قسم منها (أصل)، وهو ما رواه الراوي عن الإمام مباشرة، أو بواسطة واحدة وعددها عند بعضهم ‏أربعمائه اصل.‏
وقسم منها (جامع) وهي التي جمعت ما كان في الأُصول وهذه هي (الجوامع الأولية) عند استاذنا ‏الامام البروجردي(ره)، بإزاء الكتب الأربعة وهي الجوامع الثانوية عنده. وكان في الجوامع قليل ‏من الشرح والبيان والاحتجاج، إلى أن برز فقيه في بلدة (قم) - وكانت من أهم عواصم العلم يومذاك ‏عند الإمامية – وهو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (م329هـ) - وهو شيخ عائلة كبيرة ‏أنجبت فقهاء ومحدثين – فحول هذا الفقيه الفقه من الفقه الروائي الذي كان في ثوب روايات مسندة، ‏إلى تجريد ألفاظها وحذف أسانيدها فعرض الفقه في صورة متن فقهي مستخرج من الروايات مع ‏الاحتفاظ على الفاظها قدر المستطاع.‏
فدوّنها في رسالة له إلى ولده، محمّد بن علي المعروف بـ(الشيخ الصدوق)(م381هــ) ولم تصلنا هذه ‏الرسالة كاملة، سوى قطعات منها أدرجها ابنه في كتابه (من لا يحضره الفقيه) - وهو أحد الكتب ‏الأربعة المعتبرة في الحديث عند الإمامية – وكذلك في غيره من كتبه الفقهية. ويسمى هذا النوع من ‏الفقه (مجرد الفقه) أو الفقه المنصوص. فهذا يعد أول تحول في الفقه الإمامي.‏
ثم نهض في القرن الرابع فقيه معاصر للشيخ الصدوق باسم (محمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي)، ‏المتوفي عام 381هـ(6).‏
نفس العام الذي توفي فيه الصدوق – بتأليف كتب استدلالية في الفقه الإمامي، على طراز ماكان عند ‏أهل السنة من ذي قبل، ولكن كتبه – مع الأسف – لم تصلنا. سوى بعض فتاويه متفرقة في الكتب ‏المتأخرة من زمانه. ويبدو أنها تـُركت وطُردت حين ظهورها من قبل العلماء، لأنها كانت مظنة الرأى ‏والقياس – وقد كان ابن جنيد ينسب إليه العمل بالقياس – وحينئذ قام تلميذه وتلميذ الصدوق معا ‏الشيخ المفيد (م 413هـ) أبو  عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، بتأليف الفقه والأصول بنفس ‏الأسلوب مع الاحتراز عن القياس. وتبعه أصحابه في هذه الطريقة، ولاسيما الشريف المرتضى علم ‏الهدى (م436هـ) وأبو جعفر الطوسي وغيرهما، فألف المرتضى كتاب (الذريعة) والطوسي كتاب ‏‏(العدّة)، كلاهما في علم الأُصول وهذان الكتابان لحد الآن من أحسن المؤلفات في هذا العلم عند ‏الإماميّة، ومن أقدمها. ولم يكتف السيد والشيخ بتأليف علم الأُصول بل قاما بتفريع الفروع على طراز ‏ما شاع بين المذاهب الأخرى قبل ذلك. – كما قاما بتأليف الكتاب في مسائل الخلاف في الفقه - ‏فللطوسي - كتاب كبير باسم (المبسوط) في الفقه التفريعي، وقد نص في أوله على أن أصحابنا ‏الإمامية كانوا إلى هذا الوقت يكتفون بالفقه المنصوص مجتنبين التوسع في الفروع حذرا من الوقوع ‏في القياس والرأي. وقال: إني أطرح كل ما فرغ الفقهاء حسب قواعدهم في التعويل على القياس، ‏وأعالجها من دون القياس تعويلا على أصولنا.‏
وهذا الكتاب يعد أول كتاب في الفقه التفريعي عند الإماميّة. ولكن ليس معنى ذلك لم يكن قبله ‏تفريع في الفقه عندهم أصلا، كيف وفي كثير مما روي عن الأئمة عليهم السلام يوجد التفريع، بل ‏يروى عن الإمام الصادق عليه السلام (م148هـ) أنه قال: إنما علينا أن نلقى إليكم الأُصول وعليكم ‏أن تفرّعوا(7).‏
وعن الإمام الرضا عليه السلام (م203هـ) – وهو ثامن الأئمة – أنه قال: علينا إلقاء الأُصول وعليكم ‏التفريع(8).‏
إلى غيرهما من الأحاديث. ولكن الإمامية لم يوسّعوا في التفريع إلا قليلا ووقفوا عند النصوص حسب ‏ماقاله الطوسي.‏
وهذا النوع من الفقه شاع بعد الطوسي بين الإمامية وتوسّع عبر العصور إلى هذا الزمان، ولم يتوقف ‏في وقت من الأوقات، ولهم في الفقه والأصول مطولات ومختصرات وكتب الفتاوي لا تعدّ ولا ‏تحصى. وبأساليب شتـّى. من أجل أن باب الاجتهاد عندهم مفتوح لا يتبعون فقيها معيّنا كما يقلّد ‏أهل السنة أئمتهم. وإنّ أئمة آل البيت(ع) أقوالهم من مصادر الفقه والاجتهاد وليس الناس يقلدونهم ‏كمجتهدين، وهذا هو الفارق بين مذهب أهل البيت والمذاهب الأخرى، وبين أئمتهم وأئمة المذاهب.‏
ومع ذلك لم تنقطع بتاتا طريقة الفقه المنصوص، أو الفقه الروائي، فكان يوجد بين الفقهاء من يميل ‏إليه، تاركا الفقه التفريعي إلى أن قام بتجديده ونشره في القرن الحادي عشر عالم باسم (محمّد أمين ‏الإسترابادي) (م 1032) وله كتاب باسم (الفوائد المدنية)، وتبعه آخرون سموا باسم (الأخبارية) ‏لاعتمادهم على الروايات والأخبار، فشكّلوا جماعة في قبال جمهور الإمامية، الذين يعبر عنهم ‏بـ(الأصوليين) لاعتمادهم على علم الأُصول. ولهؤلاء الأخبارية آٍراء خاصة، وكان اكثرهم قاطنين ‏‏(البحرين) وماجاورها من البلاد في الجزيرة العربية، ثم هاجروا إلى ساير البلاد ونشروا مسلكهم. ‏والأخبارية بين الإمامية كأهل الحديث والسّلفية عند أهل السنة.‏
وهم بين مفرط في الإنكار على الأصوليين وعدّهم من أتباع طريقة أهل الرأي والقياس، وبين معتدل ‏في الموقف. ومن أبرزهم وأعدلهم موقفا الشيخ يوسف البحراني الساكن في الحائر الحسيني (كربلاء) ‏صاحب كتاب (الحدائق الناضرة) وغيرها من المؤلفات (1107 – 1186هـ).‏
والأخبارية كان لهم دور كبير في الدولة القاجارية وقبلها، ولاسيما في عصر هذا العالم، إلا أنه قد ‏نهض عالم فـذّ من الأصوليين – وكان معاصراً له قاطنا معه في كربلاء أيضاً – وقاومه بشدة، وهو آقا ‏محمّد باقر البهبهاني المعروف بـ(الأستاذ الأكبر) و(الوحيد البهبهاني) (1118 – 1208هـ) فغلب عليه ‏وكسر صولة الأخبارية، وله مع البحراني قضايا مشهورة. وكان له تلاميذ وأصحاب من جُلّة ‏المجتهدين، أخذوا زمام أمر الشيعة الإمامية بيدهم، وتبعهم أكثر الناس، فانعزلت الأخبارية وتركوا ‏الساحة للأصوليين إلى عصرنا هذا.‏
وللأصوليين الذين تأخروا عن الوحيد البهبهاني آراء وإبداعات في علم الأُصول لم يسبق لها نظير من ‏ذي قبل، لا في الإمامية، ولا في غيرهم من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى.‏
هذا هو موجز عن سير الفقه عند الشيعة الإمامية وقد حان الحين لبيان مصادر الفقه وضوابطه عندهم.‏
تتابع
المصدر: المجمع العالي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة